الجمهورية ليست بديلًا عن الدين
السياسية || محمد محسن الجوهري*
من الغباء والجهل أن تتحول الأفكار السياسية والاجتماعية إلى عقائد مقدسة من قِبل بعض الأفراد أو الجماعات بدوافع المصالح السياسية، حتى غدت عندهم بمنزلة العقائد الدينية التي لا تقبل التشكيك أو التعديل. ومن بين هذه الأفكار، نجد مفهوم "الجمهورية"، الذي يرى فيه البعض نموذجًا مقدسًا للحكم، حتى إنهم يجيزون القتل وسفك الدماء تحت ذريعة الحفاظ عليها أو تطبيقها. لكن الحقيقة التي يجب أن تُقال بوضوح هي أن الجمهورية ليست دينًا، ولا يجب أن تُعامل على أنها كذلك.
مصطلح جمهورية نشأ وتطور في عصور اليونان وروما القديمة، كما ذكر أرسطو، وهو نظام سياسي يُبنى على فكرة حكم الشعب لنفسه من خلال ممثلين منتخبين، وعادةً ما تُدار وفق دستور يحدد القوانين والحقوق والواجبات. هذا النظام يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، وضمان تداول السلطة بشكل سلمي، بعيدًا عن الحكم المطلق أو التوريث السياسي. وهناك أشكال متعددة للجمهورية، فمنها البرلمانية، ومنها الرئاسية، وكل منها يختلف في طريقة توزيع الصلاحيات بين الحاكم والبرلمان.
لكن الجمهورية مجرد شكل من أشكال الحكم، وليست عقيدة دينية أو قيمة مقدسة ينبغي القتال لأجلها أو التضحية بالأرواح من أجل فرضها. إنها وسيلة لتنظيم شؤون الدولة، وليست غاية يجب أن يعبدها الناس أو يقدسونها كما يُقدس الدين.
إن التعامل مع الجمهورية بوصفها مبدأً لا يُناقش، أو معيارًا مطلقًا للحق والعدل، هو ضرب من الغلو الفكري الذي يتعارض مع المنطق والعقل. فليست كل جمهورية عادلة، وليست كل جمهورية تحقق كرامة الشعوب أو تحترم حقوق الإنسان. فالتاريخ مليء بجمهوريات سقطت في مستنقعات الاستبداد، وتحولت إلى أنظمة قمعية تستخدم واجهة "الجمهورية" للهيمنة على الشعوب وإلغاء الحريات.
إن أخطر ما في الأمر هو أن بعض الأنظمة أو الأفراد يرفعون شعار الجمهورية لتبرير القتل والبطش، وكأن الجمهورية تُعطيهم تفويضًا مفتوحًا لإقصاء معارضيهم أو سحق المخالفين لهم. وهذا السلوك لا يختلف عما فعله المتطرفون الذين استغلوا الدين لأهداف سياسية، فالنتيجة واحدة: تبرير القتل باسم مبدأ مقدس، سواء أكان دينًا أم نظام حكم.
لكن الفرق الجوهري هنا هو أن الدين يرتكز على مبادئ إلهية ثابتة تتعلق بالعدل والرحمة والأخلاق، بينما الجمهورية مجرد فكرة بشرية قابلة للنقاش والتطوير والتغيير. لذا، فإن من يجعلها صنمًا فكريًا يستبيح به دماء الآخرين، فإنه لا يختلف عن أولئك الذين قدسوا المذاهب الفكرية أو السياسية المتطرفة عبر التاريخ، وحوّلوها إلى أدوات للقهر والاستبداد.
إن أي نظام سياسي، بما في ذلك الجمهورية، يجب أن يُحكم عليه بناءً على مدى تحقيقه للعدل والكرامة الإنسانية، لا بناءً على كونه مجرد "جمهورية". فالعبرة ليست في الأسماء والشعارات، بل في الممارسات والتطبيقات. فالجمهورية العادلة خير من جمهورية ظالمة، والعدل في أي نظام حكم أهم من مجرد تسميته جمهوريًا أو ملكيًا.
لذلك، يجب على كل عاقل أن يرفض تحويل أي نظام سياسي إلى عقيدة جامدة أو مقدسة، لأن ذلك يقود إلى الاستبداد الفكري، وإلى تسويغ الجرائم تحت ذرائع سياسية. الجمهورية وسيلة، وليست غاية، وهي فكرة يمكن تطويرها أو حتى استبدالها إن ثبت أنها لم تحقق العدل المنشود.
في النهاية، يجب التأكيد على أن الجمهورية ليست دينًا، ولا يجب أن تعامل على أنها كذلك. الدين قائم على المبادئ الأخلاقية والإيمانية التي تربط الإنسان بخالقه، أما الجمهورية فهي مجرد نموذج للحكم من صنع البشر، يخضع للتجربة والخطأ، ويجب أن يكون وسيلة لتحقيق الخير، لا أن يتحول إلى شعار تُسفك باسمه الدماء.
إن احترام المبادئ السياسية لا يعني تقديسها، والنظم السياسية وجدت لخدمة الإنسان، لا العكس. فمن يجعل الجمهورية صنمًا فكريًا يقتل من أجلها، فإنه يرتكب نفس الخطأ الذي وقع فيه من جعلوا السلطة، أو القومية، أو حتى المال، أصنامًا تعبد من دون الله.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب