أمينة خيري

الإشارة إليهم ترد في أفلام زمان، ورسوم زيتية وأخرى بألوان الفحم والرصاص تنضح بها كتب ومجلات في أقسام الأرشيف وركن الذكريات. كما أن عديداً من أغنيات “الزمن الجميل” و”الطرب الأصيل” تتطرق إلى جهدهم وعرقهم وكفاحهم في بناء مصر ودعم مسيرة تنميتها.

الرقيقة الناعمة ليلى مراد غنت “دور يا موتور” والرومانسي الحالم العندليب عبد الحليم حافظ شدا “بدلتي الزرقا من نسيج إيدي لبسها يزيني حتى يوم عيدي” والعاشق المحلق في عالم الحب فريد الأطرش غرد بـ “ياأسطى سيد” والشيخ إمام غناها واضحة صريحة “الفلاحين بيغيروا الكتاني بالكاكي، وبيزرعوك ياقطن ويا السناكي، وبيزرعوك ياقمح سارية علم”، ولكن كل من سبق رحلوا عن عالمنا.

معالم ذابت

عالمنا اليوم فيه عمال وفلاحون، لكن معالمهم ذابت في مصر الحديثة وملامحهم انصهرت مع الوجوه المنكبة على الهواتف المحمولة والشاشات المنصوبة، وكذلك في حركة الذهاب دون إياب من القرية إلى المدينة، ومن المصنع إلى “التوك توك” وفرشة لعب الأطفال الصينية على الرصيف، وبيع إكسسوارات الهواتف المحمولة المقلدة. وأخيراً وليس آخراً، استوعب قطاع النادلين متناهي الكبر في المقاهي والمطاعم أعداداً كبيرة منهم.

مقاهي مصر ومطاعمها وشوارعها ومحلاتها وميادينها عامرة بملايين العمال والفلاحين سابقاً وأبنائهم وبناتهم الذين لم يرثوا مهناً اعتبرها البعض مندثرة أو غير لائقة أو جانبها الرقي الاقتصادي. تمكن من الملايين حلم صعود السلم الاجتماعي، وبالطبع الاقتصادي من باب واحد لا ثاني له، ألا وهو الهرب من فئة العمال والفلاحين والانضمام أو على الأقل الانتساب إلى قطاع أهل “البندر” (المدينة) دون التفات للمسميات حتى إشعار آخر.

الهجرة من الريف إلى المدينة

لكن الإشعارات الواردة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تشير إلى أن سكان الريف وأغلبهم من الفلاحين آخذة في التآكل. مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية جمال عبد الجواد يشير في مقال عنوانه “هل توقفت الهجرة إلى المدن؟” إلى أن عدد سكان الحضر في مصر تساوى وعدد سكان الريف منذ عام 2006.

وفي عام 2017، تراجعت نسبة سكان الريف لتصل إلى 45،2 في المئة، واستمرت في تراجعها لتصل إلى 43،8 في المئة في عام 2020.

الريف المتروك

واقع الحال يوضح أن هذه النسبة الآخذة في النقصان تعرف طريقها إلى شوارع المدينة تاركة الريف وراءها مأسوفاً عليه. فالريف المتروك لم يرفع الراية البيضاء فقط أمام بحث مستعر من قبل ملايين النازحين عن فرص عمل ومعيشة “أفضل” في المدينة، بل أمعن في إعلان هزيمته أمام تقلص واندثار مهنة “الفلاح” نفسها.

وأصبح القادمون من الريف بتذكرة ذهاب فقط لا يحملون بالضرورة خبرات الفلاح. بل بات القادمون متأرجحين بين “فلاح بارت تايم” أي في أوقات بعينها جنباً إلى جنب مع مهن أخرى مقتبسة من المدينة، حيث إصلاح الهواتف المحمولة وقيادة الـ “توك توك”.

ويشير عبد الجواد إلى أن الاستخدام المتزايد للماكينات في أعمال الري والحصاد وغيرها من الأنشطة الزراعية قلل فرص العمل الجديدة التي يضيفها قطاع الزراعة، حتى وصلت نسبة المصريين العاملين في الزراعة إلى 21 في المئة فقط من السكان، على الرغم من أن نسبة سكان الريف أعلى من ذلك، وهو ما يصفه بـ”انفصام العلاقة بين الريف والزراعة”. كثير مما كان ريفاً في مصر أصبح تجمعات سكنية يعتمد أهلها على الخدمات والصناعة والحرف وليس على الزراعة.

لذلك، فإن نسبة المصريين المقيمين في الريف ما زالت مرتفعة، لكنهم لم يعودوا فلاحين. أصبحوا في منطقة وسط بين أعمال الفلاحة الموسمية والمهن الهامشية والإقامة في الريف، على الرغم من التشبه بالحضر، وكذلك الإقامة في الحضر مع التشبث بتقاليد الريف.

عادات الريف وتقاليده

عادات الريف وتقاليده انتقلت مع ملايين النازحين إلى المدن، ودخلت في منافسة اجتماعية ومعيشية عنيفة مع عادات وتقاليد المدينة المصرية التي كانت خليطاً من الحداثة ومواكبة الغرب في تطوره ومظهره وأسلوب حياته. المنافسة حالياً شبه محسومة لصالح الأغلبية النازحة التي رسخت أقدامها في المدن عبر موجات هجرة بدأت في ستينيات القرن الماضي، ووصلت أوجها في ثمانينياته وتسعينياته ومستمرة حالياً، على الرغم من تسلل مجالات عمالة النازحين في المهن الهامشية إلى قلب الريف.

قلب الريف موجوع

قلب الريف موجوع ليس فقط بهجر أهله للمهنة الرئيسة ألا وهي الزراعة، ولكن بتفتت الأرض الزراعية في ملكيات صغيرة ومتناهية الصغر بدأت باسترضاء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لهم بتوزيع أراضي “الإقطاعيين” عليهم تحقيقاً لـ”العدالة الاجتماعية” بمعدل خمسة أفدنة لكل فلاح تفتت إلى قراريط هزيلة في يد كل من الورثة، ومرت بزحف الخرسانة البنائية على القراريط وتتبلور حالياً في فصلها الأخير عبر هجر الفلاحة والهجرة إلى المدينة.

قلب آخر موجوع، هو قلب الصناعة وملايين العمال الذين تحولوا من مواقعهم في المصانع إلى صفحة في كتاب التاريخ الحديث. فبين عامي 1956 و1970 شهدت مصر إنشاء نحو 750 مصنعاً مملوكة للدولة، بينها 250 مصنعاً تنتج مواداً ثقيلة مثل الحديد والصلب وتوليد وإنتاج الكهرباء والمراجل البخارية وغيرها، إضافة إلى الغزل والنسيج والسكر والمواد الغذائية الحيوية. عديد من هذه المصانع كانت تعمل ثلاث ورديات في اليوم الواحد من أجل تكثيف الإنتاج وضخ العوائد في ميزانية الدولة الجاري بناؤها.

إغلاق ما تبقى

حالياً جاري إغلاق ما تبقى من هذه المصانع. مصنع الحديد والصلب تم إغلاقه نهائياً، 30 في المئة من مصانع الملابس أغلقت والقائمة طويلة.

عديد من المصانع التي تملكها الدولة وقعت في قبضة الخصخصة في تسعينيات القرن الماضي. وما نجا منها من موجة البيع تجرع مرارة الإهمال وسوء الإدارة وتردي الأوضاع. وشاءت آثار ما بعد أحداث يناير (كانون ثاني) 2011 أن تأتي كذلك على عديد من مصانع القطاع الخاص التي كانت توفر الملايين من فرص العمل للعمال وتبقي عليهم طبقة قائمة بذاتها في المجتمع المصري.

تتراوح أعداد المصانع التي أغلقت في العقد الأخير (وهو العدد الذي تفاقم خلال عامي الوباء) بين 4500 مصنع (بحسب تقديرات اتحاد النقابات المستقلة) و1500 مصنع (بحسب التقديرات الرسمية). في كلتا الحالتين طبقة عمال المصانع وصورتهم الذهنية المتمثلة في البدلة الزرقاء والكف القابض على مفتاح ربط مرفوع إلى أعلى بشموخ وإباء حبيسة احتفالات الإعلام في “عيد العمال” في الأول من مايو (آيار) وما تبقى من جداريات أكلت عليها عوامل التعرية وشربت.

عامل ليس عاملاً

الطريف أو بالأحرى المؤسف، أن عامة المصريين باتوا يستخدمون مسمى عامل للإشارة إلى عامل النظافة في الشركة أو عامل البناء في المجمع السكني أو عامل الطلاء في الشقة أو عامل الحدائق المسؤول عن ريها أو عامل الحراسة المسؤول عن تأمين العمارة. أما عامل الإنتاج في مصنع فبات عملة نادرة.

تقسيم العمالة في مصر بحسب قطاعات العمل الواردة على موقع “ستاتيستا” المتخصص في الإحصاءات والأرقام، يشير إلى انخفاض في نسبة العاملين في قطاع الزراعة من نحو 30 في المئة في عام 2009 إلى 20،6 في المئة في عام 2019.

أما قطاع الصناعة، فنصيبه من العمالة لا يزيد على 27 في المئة، في حين يستحوذ قطاع الخدمات على ما يزيد على 52 في المئة من العمالة.

المسميات الشعبية تطلق على النادل وسائق “التوك توك” والعاملين في السوبر ماركت والتوصيل وغيرها في قطاع الخدمات “عمالاً”. أما عمال المصانع فمتأرجحون شعبياً بين “باشمهندس” و”مهندس”.

الصورة الذهنية والفعلية للعامل بالبدلة الزرقاء أو الفلاح بالجلباب تحولت إلى ما يشبه الوصمة. الصراع المحموم للحاق بحياة المدينة و”بكواتها” و”باشمهندسيها” جعل من شعار “نسبة 50 في المئة عمالاً وفلاحين” فعلاً ماضياً.

“تحالف قوى الشعب العاملة” هذا الشعار البراق المرتبط بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر ودغدغته لمشاعر الجماهير المتعطشة لأي شكل من أشكال العدالة الاجتماعية ارتبط كذلك بنسبة لا تقل عن 85 في المئة من المصريين كانوا عمالاً وفلاحين وقت قيام ثورة يوليو (تموز) عام 1952.

الشعار أصبح تاريخاً

وتمكن الشعار من أن يتحول من فعل في دستور ثورة 1952 (تم إلغاؤه) ينص على تمثيل 50 في المئة في البرلمان إلى ماض سحيق. لسان حال الشارع المصري يقول إن القرية لم تعد فلاحين وإن المدينة لم تعد موظفين والعمال لم يعودوا تروساً منتجة في المصانع.

اليوم يسكن القرية موظفون ومهندسون ومعلمون وسائقو “توك توك” وموهوبون في إصلاح الهواتف المحمولة. ويسكن المدينة فلاحون هجروا الفلاحة أو يعودون إليها في مواسم جني وعمال يعملون في قطاعات الخدمات.

يرى جمال عبد الجواد أن الزراعة لم تعد النشاط الوحيد لأهل القرية المصرية بعد ما سكنها موظفون وتجار ومهنيون يبيعون سلعاً ويقدمون خدمات كانت حكراً على المدن.

وصارت القرية جزءاً من المدينة، لا سيما القرى القريبة من المدن الكبرى التي تحولت أحياءً سكنية ملحقة بالمدينة. فقد فقدت القرية جانباً كبيراً من أراضيها الزراعية لصالح البناء.

بناء ونزوح

بنى أهل الريف على الأراضي الزراعية ومن ثم نزحوا إلى المدينة أو حولوا قراهم إلى امتداد شبه حضاري (قياساً بكم الأسمنت) للمدن. فتم ترييف المدينة وتمدين القرية. وقع الترييف وتأكد بتحول النازحين من الريف وأسرهم إلى أصحاب اليد العليا في قيم الشارع. من منظور ثقافي اجتماعي، يتساءل الكاتب الطبيب خالد منتصر إن كانت كل القيم الريفية نافعة ومجدية في بناء المدينة الاجتماعي وليس المعماري.

ويشير إلى وجود قيم معطلة لهذا التمدين ومعطلة له، وعلى رأسها احترام الخصوصية واختيارات الأفراد.

اختفاء الفلاحين واندثار العمال وهيمنة قطاعات العمل الخدمي وكذلك العمل الهامشي غير المدرج في سجلات الدولة الذي يحوي نحو 2،5 مليون عامل أغلبهم إما نازحون من الريف أو أبناؤهم أو أحفادهم يدفع البعض إلى المطالبة بإعادة تعريف المسميات وإلغاء ما اندثر وتحديث ما استجد ودراسة النتائج القائمة على تحول المدينة إلى قرية كبيرة والقرية إلى مدينة صغيرة.

المصدر: ذي اندبندنت

المادة الصحفية تم نقلها من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع