السياسية || محمد محسن الجوهري*


تحتل القضية الفلسطينية محورًا أساسيًا في وجدان الشعوب العربية والإسلامية، غير أن التفاعل السياسي معها تفاوت بين الأنظمة الحاكمة. وبينما تتجمد الإرادة السياسية في بعض الدول العربية، نجد في اليمن نموذجًا مختلفًا يعكس التزامًا عمليًا لا يخلو من التضحيات الجسيمة.

الجولان السوري المحتل هو شاهدٌ على أحد أكثر أشكال الاحتلال وضوحًا في التاريخ العربي الحديث. منذ احتلاله عام 1967، ورغم مرور عقود من الزمن، لم تبادر السلطات السورية إلى تحريره، إلا من خلال الخطاب الإعلامي الذي لا يتعدى الشعارات. ورغم أن سورية دخلت في حرب 1973 لاستعادة الجولان، إلا أن النتيجة كانت تثبيت الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الاستراتيجية في الهضبة، قبل توقيع اتفاق فك الاشتباك بين "إسرائيل" وسورية في 31 مايو 1974، الذي نص على استمرار وقف إطلاق النار القائم وفصل الأطراف المتحاربة بواسطة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

ما يزيد الأمر غرابة هو أن الجولان، رغم صغر مساحته (1٬800 كم2)، لم يكن ضمن الأولويات الفعلية للحكومات السورية المتعاقبة، التي فضلت استخدام القضية كورقة تفاوضية أكثر من كونها هدفًا استراتيجيًا للتحرير. ومع انشغال سورية بأزماتها الداخلية منذ 2011، اختفت القضية تمامًا من الخطاب السياسي، ولم يعد هناك أي سعي حقيقي لتحرير الأرض المحتلة.

في الفترة الأخيرة، بات المشهد أكثر تعقيدًا مع ظهور جماعات مسلحة تسيطر على كامل الأراضي السورية، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني. هذه الجماعات التي ترفع شعارات إسلامية وجهادية لم تُظهر أي توجه فعلي لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بل على العكس، اتجهت إلى صراعات داخلية مع الفصائل الأخرى وتركت الجولان خارج حساباتها بالكامل.

وفي الوقت الذي يواصل فيه الجيش الإسرائيلي تنفيذ عمليات عسكرية في القنيطرة ودرعا وريف دمشق، لم نرَ أي رد حقيقي من الجماعات التي تسيطر على سورية بأكملها، وكأن الاحتلال الإسرائيلي ليس أولوية لها. هذا الصمت والتجاهل يعكس تناقضًا صارخًا بين الشعارات التي ترفعها هذه الفصائل والواقع الذي تُمارسه على الأرض.

على الجانب الآخر، نجد اليمن - الذي يرزح تحت حصار خانق وعدوان مستمر منذ سنوات - يصرّ على جعل القضية الفلسطينية ضمن أولوياته الوطنية. رغم الفقر، ورغم الدمار، ورغم الحرب، نجد أن صنعاء كانت أول العواصم التي أعلنت استعدادها لمد يد العون للمقاومة الفلسطينية بكل السبل الممكنة، ليس بالكلام فحسب، بل عبر خطوات عملية، سواء بتوجيه تهديدات عسكرية تجاه "إسرائيل" أو بتنظيم مظاهرات مليونية نصرةً لفلسطين.

المثير في موقف اليمن أن دعمه لفلسطين لا يأتي ضمن حسابات سياسية ضيقة أو محاولات لكسب ود القوى العظمى، بل هو انعكاس حقيقي لقناعة راسخة لدى قيادته وشعبه بأن مواجهة العدو الصهيوني مسؤولية إسلامية وعربية لا تتجزأ. فبينما تنشغل بعض الأنظمة بإبرام اتفاقيات التطبيع، كان اليمن يطلق مسيرات لمواجهة أي تهديد يمس القدس والأقصى.

المقارنة بين الموقفين السوري واليمني تكشف عن الفرق الجوهري بين الأنظمة التي تتخذ القضية الفلسطينية وسيلة للدعاية السياسية، وبين الأنظمة التي ترى في تحرير فلسطين التزامًا أخلاقيًا وسياسيًا حقيقيًا. سورية، رغم امتلاكها جيشًا قويًا ونفوذًا إقليميًا، لم تستثمر هذه القوة لاستعادة الجولان أو لدعم المقاومة الفلسطينية دعمًا مباشرًا وفعالًا. أما اليمن، الذي يعاني اقتصاديًا وعسكريًا، فقد جعل فلسطين في قلب اهتماماته، ليؤكد أن المواقف السياسية ليست مجرد انعكاس للإمكانيات، بل للإرادة.

بين الجولان واليمن تتجلى حقيقة أن الإرادة السياسية هي الفارق الحاسم في نصرة القضايا العادلة. فمن يمتلك القرار الحر، حتى لو كان محاصرًا ومستهدفًا، يمكنه أن يكون لاعبًا رئيسيًا في معادلة الصراع، بينما من يفتقد للإرادة الحقيقية، حتى لو امتلك القوة، سيظل عالقًا في دائرة الشعارات دون أفعال. ولعل في مواقف اليمن الحالية دروسًا لمن لا يزال يؤمن بأن فلسطين تحتاج أكثر من مجرد خطب رنانة، بل إلى أفعال تترجم المواقف إلى واقع ملموس.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب