ترامب أسد السُنة
السياسية || محمد محسن الجوهري*
في زمنٍ تكشَّفت فيه الحقائقُ بشكل غيرِ مسبوق، أظهرت قضيةُ فلسطينِ جوهرَ المواقفِ، وفرَّقت بين المؤمن الصادق والمنافق المدَّعي. وقد بات واضحًا لكل ذي بصيرةٍ أن المذهبيةَ والصراعَ الطائفيَّ عبرَ التاريخِ لم يكونا إلا أدواتٍ مُفتعَلةً لتفريق الأمة وتشتيت قواها، وأدواتٍ سُخِّرت لخدمة المشروع الصهيوني ومخططاته التوسعية. فاليوم، ونحن نشهد العدوانَ المستمرَّ على اليمن، نرى بوضوحٍ أنَّ الذين يَحتفلونَ بالقصفِ الأمريكي ويتشفَّونَ في آلامِ الأبرياءِ ليسوا إلا في خندقٍ واحدٍ مع الكيانِ الصهيونيِّ، وأنَّ اليمنَ وفلسطينَ وجهانِ لعملةٍ واحدةٍ من الصمودِ والتصدي للمشاريع الاستعمارية.
لم يكن هذا النهجُ جديدًا، بل سبقته احتفالاتٌ مشابهةٌ بالقصفِ الصهيونيِّ على حزب الله منذ تأسيسه قبل أربعينَ عامًا، حيث أثبتت الوقائعُ أنَّ التياراتِ الطائفية التي بُثَّت من الرياض لم تكن إلا امتدادًا للمشروع الصهيوني منذ نشأتها، حتى قبل أن تُصاغَ لها المبرراتُ الإعلاميةُ التي تروِّجها اليوم. فنرى كيف أنَّ كلَّ من يقف في صفِّ الاحتلالِ يُرفعُ في أعينِهم إلى مرتبةِ "أسد السنة"، ولو كان غيرَ مسلمٍ، كما هو الحالُ مع ترامب الذي لم يُخفِ عداءَه لكلِّ من يقفُ ضدَّ المشروعِ الصهيوني، ولم يوارِ دعمه المطلقَ للكيانِ الغاصب، ومع ذلك، هلل له أصحابُ الفكرِ الطائفيِّ وكأنَّه مُخلِّصُهم المنتظَر.
وهنا يبرز التساؤلُ المحوريُّ: ما الفرقُ بين صهيونيٍّ يحملُ لقبَ "يهودي"، وصهيونيٍّ آخرَ يحملُ لقبَ "مسلمٍ طائفي"، إذا كان كلاهما يخدمُ المشروعَ ذاتهُ ويقفُ في الخندقِ نفسه؟ لا فرقَ بين نتنياهو وترامب، ولا بينهما وبينَ شيوخِ الوهابيةِ الذين يُبارِكون جرائمَ الاحتلالِ، ويفتون بشرعيةِ التطبيعِ مع القتلة، ويحرِّمون مقاومةَ المغتصبينَ، ثم يدَّعونَ أنَّهم يحافظونَ على الإسلامِ وأهله!
وليس الأمر مقتصرًا على مواقفَ سياسيةٍ عابرةٍ، بل هو امتدادٌ لسياسةٍ استعماريةٍ عميقةٍ تستهدفُ الأمةَ بأكملِها، وتُوظِّفُ الطائفيةَ كأداةٍ فعَّالةٍ لإضعافها ومنعها من النهوضِ لمواجهةِ الاحتلالِ. فالاستعمارُ منذُ أيامِه الأولى في منطقتِنا لم يكن ليُحكمَ قبضتَه لولا استثماره في الطائفيةِ، وزرعه للفتنِ بين أبناءِ الشعبِ الواحدِ، كما حدثَ في العراقِ وسورية ولبنان، حيث أُجِّجَت النزاعاتُ الداخليةُ ليبقى العدوُّ الحقيقيُّ بعيدًا عن المواجهةِ المباشرة.
أما فلسطينُ، فقضيتها لم تكن يومًا قضيةَ مذهبٍ أو طائفة، بل كانت ولا تزالُ قضيةَ أمةٍ بأسرِها، تجمعُ المسلمَ وغير المسلم، العربيَّ وغيرَ العربي، في خندقٍ واحدٍ ضدَّ الاحتلالِ الصهيونيِّ. ولولا الطائفيةُ التي صُنِعَت ودُعِمَت بالأموالِ والفتاوى المأجورةِ، لما استطاعَ الاحتلالُ أن يستمرَّ حتى اليوم.
إنَّ التحدي الأكبرَ أمام الأمةِ اليومَ ليس فقط مقاومةَ الاحتلالِ عسكريًّا، بل مقاومةُ الفتنِ الداخليةِ التي يُغذِّيها العدوُّ بأيدٍ عربيةٍ، وإسقاطُ المشاريعِ الطائفيةِ التي تُمزِّقُ أوصالَها وتمنعُ وحدتها. فتوحيدُ الصفِّ الإسلاميِّ والعربيِّ هو السبيلُ الوحيدُ لتحريرِ فلسطين، وأيُّ دعوةٍ تفرِّقُ الأمةَ على أسسٍ مذهبيةٍ ليست إلا خنجرًا في خاصرةِ المقاومةِ، وخدمةً مجانيةً للاحتلالِ وأعوانِه.
إنَّ المرحلةَ الراهنةَ تتطلبُ وعيًا عميقًا وإدراكًا لحجمِ المؤامرةِ التي تُحاكُ ضدَّ أمتِنا، وتستلزمُ الترفعَ عن النزاعاتِ المذهبيةِ التي لا تخدمُ إلا أعداءَ الأمةِ. فلسطينُ لن تتحرَّرَ إلا بوحدةِ الصفِّ، ولن ينكسرَ الاحتلالُ إلا بتجاوزِ الخلافاتِ التي زُرِعَتْ لإبقائِنا أسرى الانقسامِ والضعفِ. وآنَ الأوانُ لنُميِّزَ بين مَن يقفُ مع فلسطينَ حقًّا، ومن يقفُ مع الاحتلالِ تحتَ ستارِ الدينِ والمذهبِ والمصلحةِ الزائفة.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب