السياسية:

مع تراجع الخيارات الدبلوماسية لمنع غزو روسيا لأوكرانيا واندلاع حرب جديدة في أوروبا، يستعد الأوكرانيون لما يخشونه من أيام مظلمة قادمة، حيث يندفع الآلاف للانضمام إلى مجموعات المتطوعين الذين تعهدوا بـ”مقاومة غزو فلاديمير بوتين لبلادهم”، ويعتقدون أنه قد يكون وشيكاً.

لكن في الوقت نفسه، هناك آخرون من الأوكرانيين ذوي الأصول الروسية أو أولئك الناطقين بها، يعتقدون أنَّ بوتين “قائد رائع”، وأن الصراع الحالي يثيره سلوك الحكومة في كييف بتشجيع من الغرب؛ مما “سيجبر موسكو” على حرب تنتهي بكارثة على أوكرانيا. فمن هم هؤلاء، وما قصتهم؟

ما حجم الإثنية الروسية في أوكرانيا؟

تشترك روسيا وأوكرانيا في الجذور التي تمتد إلى الدولة السلافية الشرقية “كييف روس”؛ وهذا هو السبب الذي جعل الرئيس الروسي بوتين يشير بأكثر من مناسبة إلى البلدين على أنهما “شعبٌ واحد” رغم انقسام الموقف في أوكرانيا بين مؤيدٍ لهذه النظرية ورافضٍ لها.

لكن على أرض الواقع، تفرقت مسارات الدولتين لعدة قرون، ما أدى إلى ظهور لغتين وثقافتين، ورغم ارتباطهما الوثيق ببعض إلا أن هناك تمايزاً بينهما.

اليوم، يمثل الأوكرانيون المجموعة الإثنية المهيمنة في أوكرانيا، حيث بلغت نسبتهم 77.82% وفقاً للتعداد الأخير للسكان الذي جرى في عام 2001، فيما يشكل الروس المجموعة الإثنية الثانية من حيث عدد السكان (17.28%). 

فيما تتمثل المجموعات الإثنية الكبيرة نسبياً لسكان أوكرانيا فيما يلي: البيلاروسيون (0.57%)، والمولدوفيون (0.54%)، وتتر القرم (0.51%)، والبلغار (0.42%)، والهنغاريون (0.32%) والرومانيون (0.31%)، والبولنديون (0.30%). وبوجه عام، يقيم في إقليم أوكرانيا ممثلو أكثر من 110 جنسيات ومجموعات إثنية.

وكما أشرنا، فإن الروس في أوكرانيا أكبر أقلية عرقية في البلاد، تم تحديد 8 ملايين مواطن على أنهم من أصل روسي من أصل 44 مليوناً، وهذا هو الرقم المجمع للأشخاص المنحدرين من خارج أوكرانيا والسكان المولودين في أوكرانيا الذين يعلنون أنهم من أصل روسي.

في الوقت نفسه، تعد اللغة الروسية أكثر انتشاراً في أوكرانيا من الروس، إذ يعتقد أنه في عام 2001 كان نحو 30% من السكان يتكلمون الروسية، كلغة أولى، كما كانت اللغة الروسية هي اللغة المهيمنة فعلياً خلال العهد السوفييتي رغم أن الأوكرانية اللغة الرسمية.

وتصل نسبة المتكلمين باللغة الروسية 2001 إلى نحو 74.9% و68.8% في إقليمين من أقاليم شرق البلاد المتاخمة لروسيا، وبصفة عامة تنتشر الروسية في جنوبي وشرقي البلاد وبصورة أقل الشمال، فيما تسود الأوكرانية في وسط وغربي البلاد.

وبعد الانهيار السوفييتي، اعتبر العديد من السياسيين الروس أن الطلاق مع أوكرانيا خطأ في التاريخ وتهديد لمكانة روسيا كقوة عظمى. فقد اعتبر الكثيرون أن خسارة السيطرة الدائمة على أوكرانيا، والسماح لها بالسقوط في الفلك الغربي، بمثابة ضربة كبيرة لمكانة روسيا الدولية. 

يقول موقع The Conversation إنه حتى اليوم، يشير الروس إلى كييف، عاصمة أوكرانيا، أحياناً على أنها “أم المدن الروسية”، على قدم المساواة من حيث التأثير الثقافي مع موسكو وسانت بطرسبرغ، ولذلك يزعم الروس أن لهم إرثاً هناك، فيما ترى الدولة الروسية أنه من واجبها حماية الجالية الروسية في أوكرانيا، كذريعة لأفعالها هناك.

“حلفاء القيصر”.. ما موقف روس أوكرانيا من الصراع الدائر بين موسكو وكييف؟

إحدى أبرز المدن التي يتواجد فيها الروس في أوكرانيا بشكل كبير، هي مدينة خاركيف التي تبعد 40 كيلومتراً فقط عن الحدود الروسية، حيث يتعاطف اليوم العديد من الأشخاص هناك مع “إخوانهم” في البلد المجاور. وقال شخص يدعى كيريل سيمينوف بغضب، لصحيفة The Independent البريطانية: “من غير المعقول بالنسبة لي ولأصدقائي حمل السلاح والبدء في قتال الروس. لقد عشنا معاً طوال حياتنا والآن هناك أشخاص يحاولون تحويلنا إلى أعداء وبدء إراقة الدماء”.

وهذه ليست وجهة نظر شائعة في معظم أنحاء البلاد، التي ترى قوة قوامها أكثر من 100 ألف جندي روسي محتشدة على الحدود، ويخوض الكرملين محادثات مع الغرب قبل شن هجوم.

لكن سيمينوف كان يعبر، أثناء وقوفه في ساحة الحرية في خاركيف، عن وجهات نظر يعتنقها عدد كبير من السكان الناطقين بالروسية أو من أبناء هذه الإثنية في هذه المدينة.

وقال سيمينوف، المهندس الكهربائي البالغ من العمر 48 عاماً للصحيفة البريطانية: “هذه الحرب سببها الأمريكيون وحلف الناتو وهم يخبرون الناس في كييف بعدم المساومة، مستخدمين أوكرانيا مرة أخرى وكيلاً لهم. وإذا بدأ القتال، فهل سيأتي الناتو إلى هنا لمحاربة الروس؟ بالطبع لا، لقد قالوا بالفعل إنهم لن يفعلوا ذلك”.

تقع خاركيف على بعد 25 ميلاً (40 كيلومتراً) فقط من الحدود الروسية و150 ميلاً (241 كيلومتراً) من دونيتسك ولوهانسك، حيث حول الصراع الشرس  هاتين المدينتين الأوكرانيتين، إلى جمهوريتين انفصاليتين بدعم روسي قبل 8 سنوات.

يقول الخبراء إن خاركيف، قد تكون أول مدينة تتعرض لهجوم روسي. ويُقدَّر أن نحو 74% من سكان خاركيف البالغ عددهم 1.4 مليون نسمة بأنهم من المتحدثين بالروسية. في الأسبوع الماضي، زعم الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أنَّ موسكو قد تحاول الاستيلاء على هذه المدينة بحجة “حماية” هؤلاء الأشخاص، وهو عمل “سيكون بداية حرب واسعة النطاق”.

إضافة إلى ذلك، فإن خاركيف هي القاعدة الرئيسية ليفين موراييف، النائب الأوكراني السابق الذي وصفته الحكومة البريطانية بأنه الزعيم المختار من بوتين لنظام دمية بعد الغزو والاحتلال.

ومع ذلك، قوبل هذا الادعاء بشكوك واسعة. وهدد موراييف نفسه باتخاذ إجراءات قانونية ضد حكومة المملكة المتحدة ودعاها لإظهار أدلة تدعم تلك المزاعم.

إلا أنَّ الروابط الروسية بالمدينة كانت موجودة منذ فترة طويلة. وقال سيمينوف، وهو يلوح لخيمة تجند قوات برفع الصور والاقتباسات الملهمة من ونستون تشرشل، وشارل ديغول، والرسوم الكاريكاتيرية لبوتين والقادة الروس من الحقبة السوفيتية: “كان هناك الكثير من المتاعب هنا في عام 2014 قد تتذكرها؛ مثل مدن دونباس. هدأ ذلك قليلاً، لكنَّ هناك توتراً كبيراً الآن مع الحديث عن الحرب. وفي جميع الأوقات، ستجد أشياء مثيرة للانقسام وغير ضرورية تحدث”.

“يجب أن تكون أوكرانيا محظوظة بوجود زعيم مثل بوتين”

بينما كان سيمينوف يتحدث، توقفت امرأة -رفضت إعطاء اسمها- تمشي عبر الثلج لتقول: “إنهم يحاولون خلق انطباع بأنَّ خاركيف مدينة معادية لروسيا، ونحن لسنا كذلك. الروس إخواننا ولن يؤذونا أبداً، ناهيك عن مهاجمتنا. كل هذا دعاية من الولايات المتحدة والناتو. يجب أن تكون أوكرانيا محظوظة بوجود زعيم مثل بوتين”، حسب تعبيرها.

من جهته، يقول ميخائيل بتروفيتش غودونوف، مدير جمعية خاركيف للسلاف الشرقيين (مجموعة إثنية)، وهي جمعية من المتحدثين الروس، إن الرئيس الأوكراني “زيلينسكي خلق الكثير من التوتر بسبب ما قاله؛ مما أدى إلى خوف الناس من المستقبل”.

وقال لـ”ذي إندبندنت”: “كان هناك الكثير من الرُهاب من روسيا والأجانب في الشهرين الماضيين. هناك أشياء مثل قوانين اللغة التي بموجبها يجب أن يتحدث العمال في المتاجر أولاً إلى العميل باللغة الأوكرانية وليس الروسية، فلماذا تُثار مثل هذه الانقسامات؟”.

وأضاف غودونوف: “لا أعتقد أنه سيكون هناك غزو. بوتين رجل ذكي؛ لن يفعل شيئاً شديد الخطورة. هناك حديث عن نشر 100000 جندي عبر الحدود من هنا، لكنك ستحتاج إلى مليون جندي لغزو أوكرانيا”.

فيما يصر رئيس بلدية المدينة، إيغور تيريكوف، على أنَّ كل شيء تحت السيطرة. وقال في رسالة عامة: “أود أن أؤكد للجميع أننا على استعداد لتقديم رفض صارم لغزو محتمل، لدينا كل القوى للدفاع عن خاركيف”، طالباً الناس بالتحلي “بالهدوء”.

لكن لا يمكن للجميع الحفاظ على هدوئهم. فقد فرّت عائلة فيكتوريا بالمارشوك من شبه جزيرة القرم بعد أن ضمتها روسيا في عام 2014، وقال إنها تعرف جيداً مشاعر الخوف التي تدفع الناس إلى اقتلاع أنفسهم من وطنهم.

وأضافت فيكتوريا: “أعلم أنَّ الوضع هنا ليس كما كان في شبه جزيرة القرم. لكني أتذكر أيضاً مدى السرعة التي تغيرت بها الأمور هناك بالنسبة لنا جميعاً. صار كل شيء فجأة مستقطباً وتغيرت الأمور بالنسبة لأولئك الذين لم يكونوا موالين لروسيا، وأتذكر كيف أصبح جيراننا أكثر انتماءً لروسيا فجأة، بينما أصبحنا غرباء”.

وتابعت: “نفكر في الانتقال إلى كييف أو لفيف، في إجراء احترازي، لحين حل هذا الوضع. لكن لا يسعنا إلا القلق”.

خاركيف.. “وادي السيليكون” الخاصة بأوكرانيا

تعد خاركيف مدينة صناعية كبيرة في أوكرانيا ومركزاً تقنياً مزدهراً، حيث كانت موطناً لمصانع الطائرات والدبابات والجرارات؛ لكنها أصبحت في السنوات الأخيرة مركزاً تكنولوجياً، مع أكثر من 50000 شخص يعملون في مجال تكنولوجيا المعلومات، وطموحات من قيادة المنطقة لتحويلها إلى وادي السيليكون في أوكرانيا.

ويوجد بخاركيف اليوم، أكثر من 45000 متخصص في تكنولوجيا المعلومات، لكن مع وجود 40 كيلومتراً فقط من الحدود مع روسيا، فإنها المدينة التي تسمى “وادي سيليكون أوكرانيا”، تواجه احتمال الانجرار إلى الصراع المستمر.

عند نقطة الحدود الثلجية بين أوكرانيا وروسيا، كان صديقان قديمان يأملان أيضاً ألا يتشظى مجتمعهما، حيث يقول سيرجي غريتسوف، الروسي، وسيرجي سفيتوتشيك، الأوكراني، وكلاهما يبلغ من العمر 62 عاماً، إنهما يعرفان بعضهما البعض منذ 40 عاماً، عندما التقيا في الكلية أول مرة.

وقال غريتسوف لـ”ذي إندبندنت”: “لقد عبرنا الحدود للمجيء مع عائلاتنا، مع جميع أصدقائنا الآخرين لتناول الطعام والشراب والتسوق دون أية مشكلات. نود أن نعتقد أنَّ هذا سيستمر لأطفالنا، لكننا قلقون من كل ما يحدث”.

ولم يكن لدى سفيتوتشيك أدنى شك في أنَّ سكان خاركيف، إذا تُرِكوا لأنفسهم، لن يتقاتلوا، لكنه قال: “هناك سياسيون يحاولون استغلال الناس وتقليبهم ضد بعضهم البعض”. وأضاف: “أنا متأكد من أنَّ هناك بعض الشركات الفاسدة المتورطة في هذا أيضاً. هذا المزيج، من السياسيين ورجال الأعمال، يحقق أرباحاً عندما تكون هناك مشكلة”.

عربي بوست