السياسية:

تمثّل أوكرانيا معضلةً يُواجهها حلف الناتو منذ سنوات، وهي معضلةٌ تسبّب فيها حلف الناتو نفسه. ففي عام 2008، وعد حلف الناتو جمهوريتين سابقتين في الاتحاد السوفييتي -أوكرانيا وجورجيا- بالحصول على عضويته، ولكن دون تحديد التوقيت والكيفية.

وتقول صحيفة New York Times الأمريكية إن روسيا قد ترى في هذا العرض تهديداً محتملاً لحدودها، وتعدّياً على مركز دائرة نفوذها، وهو التعدي الأكثر خطورة وسط سلسلةٍ من المَذلات والإهانات التي عانتها على يد الغرب منذ سقوط الاتحاد السوفييتي. ومنذ البداية، شكَّكت بعض دول الناتو فيما إذا كان عرض العضوية خطوةً حكيمة، إذ لم يتضح كيف سيتم الوفاء بالوعد، بينما أثمر- كما هو متوقع- تغذية الصراع الدائم مع الرئيس فلاديمير بوتين.

أوكرانيا “شريكة” لحلف الناتو.. ماذا يعني ذلك؟

باعتبار أوكرانيا شريكةً للناتو، وليست عضوةً في الحلف، فهي لا تتمتع بالميزة الأساسية التي يضمنها الناتو: الالتزام بالدفاع المشترك، وهذا على الرغم من أن أوكرانيا أرسلت جنودها للقتال في مهمات الناتو بالعراق وأفغانستان.

لذا، ومع احتشاد آلاف الجنود الروس على حدود أوكرانيا، ليس حلف الناتو ملزماً، بموجب معاهدة، بأن يُدافع عن أوكرانيا عسكرياً، ومن المستبعد أن يفعل ذلك أصلاً. 

وحين سُئِلَ الرئيس جو بايدن، الأربعاء 8 ديسمبر/كانون الأول، عن احتمالية نشر القوات الأمريكية في أوكرانيا؛ استبعد ذلك بشكلٍ قاطع وقال للمراسلين في البيت الأبيض، إن هذه الفكرة “ليست مطروحةً على الطاولة”.

مع ذلك، فإنّ حلف الناتو له مصلحةٌ كبيرة في محاولة ردع روسيا مع تجنّب إثارة غزوٍ عسكري في الوقت ذاته. إذ قال الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، الأسبوع الماضي: “من المهم التفرقة بين حلفاء الناتو وشركاء الناتو. حلفاء الناتو هم أولئك الذين نُوفّر لهم ضمانات الدفاع المشترك. في حين تُعتبر أوكرانيا شريكةً للناتو، وهي شريكةٌ عالية القيمة”.

لكن ما الذي يدين به حلف الناتو لشريكٍ “عالي القيمة” مثل أوكرانيا؟

يقول إيفو دالدر، سفير الولايات المتحدة السابق إلى حلف الناتو ورئيس منظمة Chicago Council on Global Affairs البحثية، لصحيفة نيويورك تايمز: “السؤال الجوهري الذي يُواجهه حلف الناتو هو كيفية الحفاظ على مصداقية التحالف”. وأردف أن “أوكرانيا ليست عضوةً في الناتو رغم قربها الشديد من الحلف، فكيف إذن سيضمن استقلالها وسيادتها؟”.

وقد حذّرت إدارة بايدن مؤخراً من غزوٍ روسي محتمل لأوكرانيا، كما هدّدت موسكو بأنّ هذه الخطوة ستعقبها عقوبات اقتصادية خطيرة. بينما ذكر بايدن أنّه أوضح هذه المسألة مراراً لبوتين خلال مؤتمر بتقنية الفيديو استمر ساعتين، بين الرئيسين، الثلاثاء 7 ديسمبر/كانون الأول.

عقب اللقاء، كرّر بوتين مزاعمه بأنّ توسّع الناتو في أوكرانيا سيمثل تهديداً خطيراً على روسيا، وأنّ عدم التحرّك لإيقاف ذلك التوسع سيكون “بمثابة إهمالٍ جنائي من جانبنا”.

وكان بوتين هنا يقصد التحرّك على مستوى النقاش، وليس الغزو، حيث ستقدم روسيا طلباتها إلى واشنطن لإجراء حوارٍ أمني خلال هذين اليومين، وأضاف: “لدينا فرصةٌ لمواصلة هذا الحوار. وأعتقد أنّ هذا هو الأمر الأكثر أهمية”.

10 دول سوفييتية سابقاً انضمت للناتو.. فلماذا تقلق روسيا من ادخول أوكرانيا للحلف؟

على مدار الجيل الماضي انضمت نحو 10 دول، كانت جزءاً من الكتلة السوفييتية في السابق، إلى حلف الناتو الذي حرّك حدوده مئات الكيلومترات شرقاً. وهو توسُّعٌ نظرت إليه موسكو في صورة تحركات عدوانية من عدوٍ محتمل.

وبسبب وعد العضوية، رأى بوتين نفسه في مواجهة حالة “تطويق” وحلف الناتو التوسعي المُصر على اقتطاع أوكرانيا بعيداً عن منطقة النفوذ الروسي. وهذه في حد ذاتها ضربةٌ مُوجعة لرجلٍ يرى في انهيار الاتحاد السوفييتي “أعظم كارثة جيوسياسية” وقعت خلال القرن الماضي، ويُركّز على إعادة بناء وتأكيد قوة روسيا.

يعتبر بوتين أوكرانيا دولةً “مزيفة وجزءاً لا يتجزأ من روسيا”، باعتبار أنها كانت مهد الدولة الروسية في العصور الوسطى. وقد أوضح وجهات نظره بمقالٍ طويل نُشِرَ في يوليو/تموز الماضي، بعنوان: “عن الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين”.

وبغض النظر عن صحة وجهة نظره من عدمها، كتب يوجين رومر وأندرو فايس، من مؤسسة Carnegie Endowment البحثية، إن بوتين “ينظر إلى أوكرانيا بشكلٍ متزايد، على اعتبار أنها حاملة طائرات الغرب المتوقفة قبالة روستوف أوبلاست جنوب روسيا”. كما أشارا إلى أن أوكرانيا الآن واحدةٌ من أكبر الدول التي تحصل على مساعدات عسكرية أمريكية.

بينما قال دالدر: “شعر بوتين بالاستفزاز نتيجة شعوره باستقلال أوكرانيا، وليس بسبب عرض حلف الناتو. لكن تصرفاته قللت احتمالية أن تفعل أوكرانيا ما يريده. إذ صارت أوكرانيا الآن أكثر ولاءً للغرب، وأكثر ميلاً للقومية الأوكرانية، وأقل ولاءً لروسيا نتيجة ما فعله بوتين في غزو عام 2014”.

يُذكر أنّه في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، اقترحت بعض الدول الغربية حلّ الناتو أيضاً. لكن الحلف توسَّع أكثر، بدلاً من ذلك، و”صار من الصعب معرفة متى يجب إيقافه”، بحسب أستاذ دراسات الحرب الفخري بكلية الملك في لندن لورانس فريدمان. وقد أشار فريدمان بالطبع إلى أن ذلك التوسُّع جاء استجابةً لرغبات دول الكتلة السوفييتية السابقة.

متى ستكون أوكرانيا جزءاً من حلف الناتو؟

لكن فريدمان يرى أنه كان من الأفضل لو “عثر حلف الناتو على وسائل أخرى لدعم جورجيا وأوكرانيا” دون تقديم وعود العضوية. كما أوضح أن أوكرانيا لن تكون جزءاً من حلف الناتو مطلقاً على الأرجح، “لكننا لا نستطيع إدراج هذا البند في معاهدة” كما يطلب بوتين.

مع ذلك، قد يكون من الأسهل أن نمنح بوتين النقاش الذي يقول إنه يريده حول مستقبل الأمن الأوروبي، لو كان ذلك سيهدئ المخاوف الروسية، بحسب فريدمان. وأردف: “حسناً، لنعقد مؤتمراً ضخماً، وليستمر المؤتمر لسنوات. فالحديث إلى بوتين ليس تنازلاً في حدِّ ذاته”.

لكن “الذنب الذي لا يُغتفر” لحلف الناتو، بحسب دالدر، كان الوعدَ المُطلق الذي حصلت عليه أوكرانيا وجورجيا في بوخارست، في أبريل/نيسان عام 2008. وقد جاء ذلك الوعد نتيجة تسوية توصّل إليها الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، في وقتٍ متأخر من الليل، بعد أن رفض أعضاء آخرون في الناتو -مثل ألمانيا وفرنسا- مقترح عرض خارطة طريق ملموسة وفورية على البلدين للحصول على العضوية.

بينما قال كارل بيلدت، رئيس الوزراء ووزير الخارجية السويدي السابق: “كانت تسوية بوخارست أسوأ خيارٍ ممكن. إذ خلقت توقعات لم تتحقَّق ومخاوف مبالَغ فيها إلى حدٍّ كبير. لقد كانت منفعةً قصيرة الأجل بتداعيات طويلة الأجل ما نزال نعيشها منذ ذلك الحين”، حيث خسرت جورجيا حرباً خاطفة أمام روسيا بعد أربعة أشهر من العام نفسه، إلى جانب الجهود الروسية لزعزعة استقرار أوكرانيا وإعادة فرض السيطرة عليها.

أما فيونا هيل، الخبيرة الروسية بمؤسسة Brookings Institution البحثية، فقد كانت حاضرةً في قمة بوخارست بصفتها ضابطة استخبارات قومية أمريكية. وقد قالت إن المجتمع الاستخباراتي أوصى بعدم عرض العضوية على أوكرانيا وجورجيا، لأن غالبية دول الناتو كانت تُعارض الخطوة، لكن بوش أصرَّ على قراره. وقد توسَّط البريطانيون في التسوية، لكنها “كانت أسوأ النتائج الممكنة، حيث مايزال بوتين يُحاول إغلاق هذا الباب منذ ذلك الحين”، على حد تعبيرها.