السياسية || محمد محسن الجوهري*

لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية تمارس هيمنة شبه مطلقة على العالم، وتفرض إرادتها السياسية ومصالحها على أغلب الدول، وتسخر كل ذلك في خدمة الصهيونية العالمية، والتي بدورها تشكل مؤامرة كبرى على البشرية، كما أشار إلى ذلك الكاتب الأمريكي ويليام جاي كار في كتابه "اليهود وراء كل جريمة"، حيث يؤكد أن الصهيونية تقف خلف معظم الأحداث الكبرى التي غيرت مجرى التاريخ، وتستخدم الولايات المتحدة كأداة لتنفيذ مخططاتها.

لقد تمكنت أمريكا من إحكام قبضتها على العالم من خلال تفوقها العسكري، إذ تمتلك قواعد عسكرية منتشرة في مختلف أنحاء المعمورة، وتتحكم بالممرات المائية عبر أساطيلها البحرية التي تجوب البحار والمحيطات، ناشرة الرعب في أرجاء العالم. وهذه السيطرة العسكرية ليست مجرد استعراض للقوة، بل وسيلة مباشرة لابتزاز الدول وفرض الإملاءات السياسية عليها، كما حدث مع العراق الذي دمرته آلة الحرب الأمريكية تحت ذرائع كاذبة، ومع أفغانستان التي خضعت لعشرين عامًا من الاحتلال العسكري دون مبرر سوى تكريس السيطرة الأمريكية على المنطقة.

كما أنها، في أغلب الأحيان، وسيلة لإخضاع حلفائها وسوقهم إلى تنفيذ مشاريعها السياسية والاقتصادية، كما هو حال دول الخليج، حيث تشكل القواعد الأمريكية على الحكومات العميلة نفسها، وتمنعها من ممارسة أي حرية في القرار السياسي أو الاقتصادي، إضافة إلى أن تلك الحكومات ملزمة بدفع تكاليف باهضة بذريعة الحماية المزعومة.

إلى جانب القوة الصلبة، تمتلك أمريكا أدوات القوة الناعمة التي لا تقل خطورة عن الترسانة العسكرية، ومن أبرزها السيطرة المطلقة على النظام المالي العالمي عبر فرض الدولار كعملة أساسية في التعاملات الدولية، ما يمنحها سلطة تجويع الشعوب وإفقار الدول غير الخاضعة لها. وقد كشف الباحث الصيني سونغ هونغ بينغ في كتابه "حرب العملات" كيف أن الدولار ليس مجرد عملة، بل أداة حرب اقتصادية تمكّن أمريكا من نهب ثروات الشعوب وربط اقتصادات الدول بمنظومتها المالية، بحيث تصبح أي محاولة للانفصال عنها ضربًا من المستحيل.

كما أن أمريكا تحتكر الفضاء السيبراني العالمي، فهي المتحكم الأول في شبكة الإنترنت وتمتلك حق إدارتها وعائداتها، مما يجعلها قادرة على فرض رقابة كاملة على تدفق المعلومات وتوجيهها لخدمة أجنداتها. وقد أشار المؤرخ إريك هوبزباوم في كتابه "عصر الإمبراطورية" إلى أن الإمبراطوريات الحديثة لم تعد بحاجة إلى جيوش جرارة لفرض سيطرتها، بل يكفيها التحكم في المعلومات والتكنولوجيا لإخضاع الشعوب دون طلقة واحدة.

ولا تتوانى الولايات المتحدة في استخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح لكسر إرادة الدول التي ترفض الانصياع لها، كما نرى في فنزويلا وسورية والعراق وإيران واليمن، حيث تحولت العقوبات إلى أداة خنق اقتصادي تهدف إلى تركيع الشعوب وإشعال الفوضى الداخلية. وقد أظهرت تقارير الأمم المتحدة أن العقوبات الأمريكية على فنزويلا تسببت في انهيار الاقتصاد الفنزويلي، مما أدى إلى أزمة إنسانية خانقة جعلت الملايين يعانون من الجوع ونقص الدواء، وهو ما يعد جريمة ضد الإنسانية ترتكبها واشنطن بغطاء قانوني زائف.

لكن رغم هذه الهيمنة المطلقة، فإن العالم بدأ يشهد تحولات جذرية تهدد التفرد الأمريكي بالنظام الدولي، حيث تسعى بعض الدول إلى بناء تحالفات استراتيجية تقلل من تأثير النفوذ الأمريكي، مثل التحالفات العسكرية بين روسيا والصين وإيران، التي تهدف إلى تشكيل قوة ردع مضادة للوجود العسكري الأمريكي.

كما أن دولًا عديدة بدأت بالتحرر من هيمنة الدولار، حيث تعمل الصين وروسيا ودول منظمة بريكس على تعزيز استخدام العملات المحلية في التبادل التجاري، مما قد يشكل ضربة قاصمة للاقتصاد الأمريكي القائم على طباعة الدولار دون غطاء حقيقي. بالإضافة إلى ذلك، تسعى بعض الدول إلى إنشاء أنظمة مالية بديلة تقلل الاعتماد على المنظومة الأمريكية، مثل التوجه نحو العملات الرقمية الوطنية، التي قد تمثل ثورة في النظام المالي العالمي وتحدّ من قدرة واشنطن على فرض العقوبات الاقتصادية التعسفية.

وفي المجال التقني، بدأت القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا في تطوير بدائل تكنولوجية مستقلة، سواء عبر إنشاء شبكات إنترنت محلية أو أنظمة تشغيل خاصة بها، مما يقلل من قدرة الولايات المتحدة على فرض رقابتها المطلقة على تدفق المعلومات.

إن هذه التحولات تمثل تحديات حقيقية للهيمنة الأمريكية، وتؤكد أن النظام العالمي لم يعد أحادي القطب كما كان منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، بل يتجه نحو عالم متعدد الأقطاب حيث لم يعد بإمكان واشنطن فرض إرادتها دون مواجهة مقاومة حقيقية. ومع استمرار سعي الدول إلى تحقيق استقلالها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي، قد يصبح سقوط الهيمنة الأمريكية واقعًا لا مفر منه في المستقبل القريب.


* المقال يعبر عن رأي الكاتب