السياسية:

يصوّر الغرب روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين على أنهما السبب في الأزمة الحالية مع أوكرانيا، لكن موقعاً أمريكياً متخصصاً في الشؤون السياسية تناول جذور الصراع ورصد 4 استفزازات غربية تسببت فيما وصلت إليه الأمور.

وتواجه أوروبا أزمة أوكرانيا التي قد تتعرض لغزو روسي في أي وقت، إذ يواصل بوتين حشد قواته على الحدود الروسية الأوكرانية، جنباً إلى جنب مع النفي الرسمي لنية الغزو العسكري، ومطالبة إدارة جو بايدن بتقديم ضمانات قانونية ملزمة تنص على أن حلف الناتو لن يضم أوكرانيا.

وتخشى الحكومة الأوكرانية من تكرار ما حدث في إقليم القرم عام 2014، خصوصاً أن واشنطن وبروكسل أعلنتا عدم إرسال قوات أمريكية أو تابعة لحلف الناتو إلى أوكرانيا لصد الغزو الروسي المحتمل، والاكتفاء بالتهديد بفرض عقوبات على موسكو إذا ما حدث الغزو فعلاً.

ومن المقرر إجراء مفاوضات بين موسكو وواشنطن خلال النصف الأول من يناير/كانون الثاني 2022، بهدف مناقشة المطالب الروسية، فهل يوافق بايدن على “خطوط بوتين الحمراء” أم يقع الغزو الروسي؟

موقع Responsible Statecraft الأمريكي نشر تقريراً حول الأزمة بعنوان “4 استفزازات غربية ولَّدت أزمةً أمريكية روسية اليوم”، تناول جذورها، التي ترجع إلى ما قبل 3 عقود.

روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي

تفكَّكَ الاتحاد السوفييتي في نهاية عام 1991، وكانت تلك نهايةً سلميةً مفاجئة للإمبراطورية الشرقية. سعت روسيا، بصفتها الدولة الخلف الرئيسية للاتحاد السوفييتي، إلى الانضمام إلى الغرب الديمقراطي، ورحبت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون رسمياً بهذا الطموح.

لكن بعد ثلاثة عقود، يخوض الغرب وروسيا صراعاً حاداً على نحو متزايد أثناء الحرب الباردة. إنه تطوُّرٌ مأساوي، وقد يتصاعد إلى نزاعٍ مُسلَّحٍ كارثي. ترفض روسيا والغرب تحمل اللوم في إشعال حرب باردة جديدة، ولكن هناك اختلافٌ جوهري في درجة المسؤولية. كانت استفزازات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أكثر عدداً وأفظع وبدأت في وقت سابق، بحسب الموقع الأمريكي.

يؤكد مسؤولو الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وكذلك معظم وسائل الإعلام الغربية، أن روسيا هي المسؤولة عن المواجهة البشعة الحالية. وهي تسلِّط الضوء على أربعة إجراءات للكرملين أدَّت إلى تصعيد التوترات بين الشرق والغرب.

الواقعة الأولى، وفقاً للنسخة الغربية من الأحداث، وقعت عام 2008 عندما غزت القوات الروسية جورجيا وتقدَّمَت إلى ضواحي العاصمة تبليسي. ووقعت جريمةٌ ثانية، وأخطر، في عام 2014 عندما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا وضمَّت شبه الجزيرة الإستراتيجية بعد إجراء استفتاءٍ زائف.

وجاءت الواقعة الثالثة بعد أشهرٍ فقط، عندما دبرت روسيا تمرُّداً انفصالياً في منطقة دونباس الشرقية بأوكرانيا ثم أرسلت قوات لمساعدة التمرُّد. خلال السنوات التي تلت ذلك، فاقمت حكومة فلاديمير بوتين الحرب الباردة الناشئة من خلال التدخُّل في الشؤون السياسية الداخلية للعديد من الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة.

وبحسب موقع Responsible Statecraft، تتضمَّن تلك الادِّعاءات الغربية بعض الحقيقة، لكنها جميعاً تتجاهل السياق الحاسم. على سبيل المثال، لم يحدث غزو جورجيا عام 2008 إلا بعد أن أطلق الجيش الجورجي النار على قوات حفظ السلام الروسية التي كانت موجودة في منطقة أوسيتيا الجنوبية الانفصالية منذ أوائل التسعينيات.

حتى أن تحقيقاً أجراه الاتحاد الأوروبي خلُص إلى أن القوات الجورجية بدأت القتال. وبدأ الصراع أيضاً في جزءٍ كبيرٍ منه لأن الرئيس جورج دبليو بوش شجع رئيس جورجيا، ميخائيل ساكاشفيلي، على الاعتقاد بأن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي سيدعمان بلاده إذا تورَّطَت في صراعٍ مع روسيا. 

كان استيلاء بوتين على شبه جزيرة القرم في الواقع انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، لكنه لم يحدث إلا بعد أن ساعدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الرئيسيون في الاتحاد الأوروبي المتظاهرين بلا مواربة على إطاحة الرئيس الأوكراني المنتخب الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش.

أثار هذا الانقلاب المُقنَّع مخاوف روسية من أن أوكرانيا على وشك أن تصبح منطقة انطلاق أمامية لقوة الناتو العسكرية. ومن بين المخاوف الأخرى، كان الكرملين يشتبه في أنه سيفقد الوصول إلى قاعدته البحرية الحيوية في سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم وسيشهد تلك المنشأة وهي تتحوَّل لقاعدةٍ معادية تابعة لحلف شمال الأطلسي.

تتجاهل الاتهامات أحادية الجانب، والتي تخدم مصالحها الذاتية لسلوك روسيا بشكل ثابت، الاستفزازات الغربية العديدة التي حدثت قبل وقتٍ طويل من تدخُّل موسكو في إجراءاتٍ تخريبية. وفي الواقع، بدأ تدهور علاقات الغرب مع روسيا ما بعد الشيوعية خلال إدارة بيل كلينتون. 

أول توسُّعٍ للناتو باتجاه الشرق

في مذكِّراتها بعنوان “السيدة الوزيرة – Madame Secretary”، اعترفت السفيرة الأمريكية السابقة لدى الأمم المتحدة ووزيرة الخارجية مادلين أولبرايت بأن مسؤولي إدارة كلينتون قرَّروا بالفعل في عام 1993 تأييد رغبات دول وسط وشرق أوروبا في الانضمام إلى الناتو. شرع الحلف في إضافة بولندا وجمهورية التشيك والمجر في عام 1998. واعترفت أولبرايت أن الرئيس الروسي آنذاك بوريس يلتسين ورفاقه كانوا مستائين للغاية من هذا التطوُّر.

كان ردُّ الفعل الروسي مفهوماً، لأن ضمَّ التشيك والمجر انتهك الوعود غير الرسمية التي أعطتها إدارة الرئيس جورج بوش الأب لموسكو عندما وافق ميخائيل جورباتشوف ليس فقط على قبول توحيد ألمانيا ولكن أن تكون ألمانيا في الناتو أيضاً. وكانت المقايضة الضمنية هي أن الناتو لن يتجاوز الحدود الشرقية لألمانيا الموحَّدة.

ثم أدَّت الحرب الجوية التي شنها حلف شمال الأطلسي عام 1995 ضد صرب البوسنة الذين يسعون إلى الانفصال عن دولة البوسنة والهرسك الجديدة وفرض اتفاقيات دايتون للسلام، إلى إزعاج حكومة يلتسين والشعب الروسي إلى حدٍّ كبير.

كانت البلقان منطقة ذات أهميةٍ دينية واستراتيجية كبيرة لموسكو لأجيال طويلة، وكان من المهين بالنسبة للروس أن يشاهدوا بعجزٍ التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة يحقق النتائج هناك.

شعار مناطق حظر الطيران الخاص بالناتو

قامت القوى الغربية باستفزازٍ أكبر بعد أربع سنوات عندما تدخَّلت لصالح تمرُّدٍ انفصاليٍّ في إقليم كوسوفو المضطرب في صربيا. وفصل تلك المقاطعة عن صربيا ووضعها تحت سيطرة الأمم المتحدة لم يؤسِّس فقط لسابقةٍ دوليةٍ غير صحية، ولكنه أظهر أيضاً ازدراءً تاماً لمصالح روسيا وتفضيلاتها في البلقان.

كانت قرارات إدارة كلينتون بتوسيع الناتو والتدخُّل في البوسنة وكوسوفو خطوات حاسمة نحو تدشين حرب باردة جديدة مع روسيا. يستشهد سفير الولايات المتحدة السابق لدى الاتحاد السوفييتي سابقاً، جاك إف ماتلوك جونيور، بالتأثير السلبي لتوسُّع الناتو والتدخُّلات العسكرية بقيادة الولايات المتحدة في البلقان على المواقف الروسية تجاه الولايات المتحدة والغرب: “كان التأثير مدمِّراً على ثقة الروس في الولايات المتحدة. في عام 1991، كان التأثير على ثقة الروس في الولايات المتحدة مدمراً. في عام 1991، أشارت استطلاعات الرأي إلى أن حوالي 80% من المواطنين الروس لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه الولايات المتحدة. في عام 1999، كانت لدى نفس النسبة تقريباً وجهة نظر غير مواتية”.

موجات توسع الناتو اللاحقة.. استفزاز غربي آخر

دفعت إدارة جورج دبليو بوش، غير الراضية عن الطريقة التي أثارت بها إدارة كلينتون العداء مع موسكو من خلال نقل الناتو إلى أوروبا الوسطى، الحلفاء إلى منح العضوية لبقية حلف وارسو البائد وجمهوريات البلطيق الثلاث.

وقد أدَّى قبول جمهوريات البلطيق في حلف الناتو في 2014 إلى تصعيدٍ كبيرٍ للزحف العسكري الغربي. لم تكن تلك البلدان الصغيرة الثلاثة جزءاً من الاتحاد السوفييتي فحسب، بل قضت أيضاً معظم تاريخها الحديث كجزءٍ من إمبراطورية روسيا القيصرية.

كانت روسيا لا تزال أضعف من أن تفعل أكثر من احتجاجاتٍ دبلوماسية ضعيفة، لكن مستوى الغضب من تجاهل الغرب المتغطرِس للمصالح الأمنية لروسيا قد ارتفع.

لم يكن توسيع الناتو إلى حدود روسيا هو الاستفزاز الوحيد. فقد كانت الولايات المتحدة منخرطةً على نحوٍ متزايد في عمليات نشر “دورية” لقواتها العسكرية في الدول أعضاء التحالف الجدد.

حتى وزير دفاع جورج بوش، روبرت غيتس، أعرب عن قلقه من أن مثل هذه الأعمال تخلق توتُّراتٍ خطيرة. وأوضح خطاب بوتين في فبراير/شباط 2007 أمام مؤتمر ميونيخ للأمن السنوي أن صبر الكرملين على غطرسة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على وشك النفاد. حاول بوش أن يضمن عضوية الناتو لجورجيا وأوكرانيا -وهي سياسةٌ واصَلَ خلفاؤه دفعها، على الرغم من مقاومة فرنسا وألمانيا.

لم يأخذ القادة الغربيون تحذيرات بوتين بجديَّةٍ كافية. وفي المقابل، استمرَّت الاستفزازات على جبهات متعددة، بل وتسارعت في بعض الحالات. تجاوزت الولايات المتحدة وقوى الناتو الرئيسية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أوائل عام 2008 لمنح كوسوفو الاستقلال الكامل.

وبعد ثلاث سنوات، ضلَّلَت إدارة باراك أوباما المسؤولين الروس بشأن الغرض من مهمةٍ عسكرية “إنسانية” للأمم المتحدة في ليبيا، ما أقنع موسكو بالعزوف عن استخدام حق الفيتو. لكن المهمة تحوَّلَت على الفور إلى حربٍ بقيادة الولايات المتحدة لتغيير النظام بإطاحة الزعيم الليبي معمر القذافي.

وبعد ذلك بوقت قصير، عملت الولايات المتحدة مع قوى الشرق الأوسط ذات التفكير المماثل في حملة لإطاحة برئيس النظام في سوريا بشَّار الأسد، حليف روسيا. تبع ذلك التدخُّل الفاضح للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في السياسة الداخلية لأوكرانيا.

ويخلص الموقع الأمريكي إلى أنه ليس من العدل الحكم على تصرُّفات روسيا العدوانية والمُزعزِعة للاستقرار، بما في ذلك ضم شبه جزيرة القرم، والتدخُّل العسكري المستمر في سوريا، واستمرار دعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا، ومحاولة التدخُّل في الشؤون السياسية لدول أخرى، دون الاعتراف بالتجاوزات العديدة السابقة من جانب الدول الغربية. إن الغرب، وليس روسيا، هو المسؤول إلى حدٍّ كبير عن شنِّ الحرب الباردة الجديدة. 

عربي بوست