السياسية:

خلال التطورات الأخيرة المصاحبة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان برز الدور القطري في الوساطة والتواصل بين واشنطن وحركة طالبان، في حين تراجع الدور الإماراتي في الملف الأفغاني رغم قدمه الزمني وتعدد أبعاده. فقد كانت أبوظبي إحدى الدول الثلاث رفقة باكستان والسعودية التي اعترفت بشرعية حكومة “الإمارة الإسلامية” التي أعلنت حركة طالبان تأسيسها في الفترة من عام 1996 إلى 2001 عقب سيطرتها على قرابة 90% من الأراضي الأفغانية. لكن جرت بعد ذلك في النهر أحداث أثرت على شكل العلاقة بين الإمارات وطالبان.

جذور العلاقة بين الطرفين
وفق تقرير صحفي نشره موقع عربي بوست ،يكشف التقرير الأول الصادر في سبتمبر/أيلول 2012 عن فريق الدعم التحليلي ورصد تنفيذ الجزاءات التابع للأمم المتحدة، أن عدد المواطنين الأفغان المقيمين في الإمارات يبلغ 150 ألف مواطن أفغاني من بينهم 500 رجل أعمال من الأثرياء تبلغ استثماراتهم في الإمارات وحدها 4 مليارات دولار بالتوازي مع تحكمهم في قرابة 60% من مجموع التجارة الأفغانية، فضلاً عن تواجد 50 ألف عامل أفغاني بالإمارات يستعملون جوازات سفر باكستانية. أي يوجد قرابة 200 ألف أفغاني من بين 10 ملايين شخص يعيشون على الأراضي الإماراتية.

تلك الأرقام تكشف وجود أبعاد اجتماعية واقتصادية للعلاقات الأفغانية الإماراتية تفرض نفسها في النهاية على العلاقات السياسية بين البلدين، بغض النظر عن هوية من يحكم أفغانستان، ولذا نجد أن الإمارات اعترفت دبلوماسيا في عام 1996 بحكومة طالبان، لكنها مثل السعودية لم تفتح سفارة أو قنصلية تمثلها في أفغانستان، إنما أدارت الدولتان علاقاتهما مع حكومة كابول عبر التواصل مع وزير الخارجية الأفغاني في باكستان بحسب السفير الطالباني في باكستان عبدالسلام ضعيف في كتابه “حياتي مع طالبان”.

في نوفمبر/تشرين الثاني 1999 فرض مجلس الأمن عقوبات على حكومة طالبان بسبب رفضها تسليم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وشملت العقوبات حظر تحليق الطائرات التي تملكها أو تستأجرها أو تشغلها حكومة طالبان؛ وهو ما أدى إلى إيقاف رحلات خطوط شركة الطيران الأفغانية “أريانا” إلى وجهتها الوحيدة التي كانت تطير لها آنذاك وهي دولة الإمارات.

 ولكن بحسب تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2000 بعنوان (الحالة في أفغانستان وأثرها على السلم والأمن الدوليين) فقد دشنت شركة طيران خاصة مقرها الإمارات، وتُدعى “الدولفين الطائر” رحلة أسبوعية بين مدينتي الشارقة وقندهار، لتصبح أول شركة جوية تجارية تقوم برحلات من وإلى أفغانستان منذ فرض العقوبات الأممية، وهو ما يوضح خصوصية العلاقات الإماراتية الأفغانية آنذاك.

خصوصية العلاقة بين البلدين تبدّت في عدة جوانب، فعندما تعرض في عام 2000 رئيس وزراء حكومة طالبان، والرجل الثاني بالحركة الملا محمد رباني للإصابة بورم خبيث أجرى أولاً عملية جراحية في دبي، ثم عندما ساءت صحته لاحقاً قدم سفير طالبان بباكستان طلباً للإمارات لعلاج الملا رباني، فأرسلت أبوظبي في اليوم التالي إلى باكستان حيث كان يتلقى الملا رباني العلاج من الفريق الطبي الذي سبق أن عالجه بدبي.

لكن التغير في العلاقة بين الإمارات وحكومة طالبان طرأ عقب وقوع أحداث سبتمبر/أيلول 2001؛ حيث سارعت الإمارات إلى سحب اعترافها بحكومة طالبان كممثل شرعي لأفغانستان، وطردت الدبلوماسيين الأفغان التابعين لطالبان من الأراضي الإماراتية، ثم شاركت الإمارات بقوات عسكرية ضمن قوات التحالف الدولي التي عملت في أفغانستان تحت مظلة الناتو وشركائه. وهي المشاركة التي تطرق لها بإيجاز الأمريكي مايكل والتز في كتابه (المحارب الدبلوماسي) حيث عمل كقائد لإحدى فرق القبعات الخضراء الأمريكية، واشترك في مهام مع القوات الخاصة الإماراتية بأفغانستان التي شكرها في مقدمة كتابه، وقد نشر مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ترجمة للكتاب باللغة العربية في عام 2019.

لكن الدور العسكري الإماراتي في أفغانستان ظل محدوداً وغير مؤثر على سير المواجهات العسكرية، فعدد القوات الإماراتية حسب تقرير التوازن العسكري لعام 2010 بلغ 25 عسكرياً، ثم ازداد في 2013 إلى 35 عسكرياً، وهو عدد محدود للغاية مقارنة بما يزيد على 100 ألف جندي تواجدوا آنذاك ضمن قوات المساعدة الدولية “إيساف”. ولكن الدور الإماراتي الأبرز جاء ضمن محاولات تصنيف طالبان إلى معتدلين ومتشددين.

استقطاب المعتدلين في طالبان

مع عودة طالبان لتجميع شتات عناصرها، وتصاعد التمرد المسلح الذي قادته، طرح الرئيس الأفغاني حامد كرزاي في مؤتمر لندن عام 2010 مشروعاً يهدف لإقامة حوار مع طالبان عبر تشجيع قيادات الصف الثاني بالحركة على نبذ العمل المسلح والانخراط في حوار لبناء عملية سلام.

وفي خطوة لاحقة طُرح في مؤتمر بون المنعقد في ديسمبر/كانون الأول 2011 إنشاء مكتب سياسي لطالبان بالدوحة من أجل إقامة تواصل مباشر مع الحركة، وهو ما رحّبت به طالبان في بيان رسمي أصدرته في يناير/كانون الثاني 2012. ولكن تأجل افتتاح مكتب الدوحة لفترة في ظل وجود خلافات حول دوره هل سيقتصر على كونه مكتباً سياسياً أم سيصبح بمثابة مقر دبلوماسي للحركة، ثم أُفتتح المكتب رسميا في 18 يونيو/حزيران 2013 لكن أدى استخدام طالبان لعلمها السابق تحت لافتة الإمارة الإسلامية إلى إثارة غضب الحكومة الأفغانية التي طلبت إنزال العلم، مما دفع حركة طالبان لإغلاق المكتب مؤقتاً.

بالتزامن مع ما سبق، لعبت الإمارات دوراً في التواصل مع وزير المالية الأسبق خلال فترة حكم طالبان الأولى، ورئيس اللجنة المالية بالحركة آغا جان معتصم، وذلك عقب إبعاد الملا عمر له من منصبه في عام 2009. فقد بدأ معتصم في الظهور على أنه ممثل لجناح في طالبان يرغب في المصالحة مع الحكومة، وتعرض إثر ذلك لمحاولة اغتيال عام 2010 بكراتشي بباكستان أصيب خلالها بجراح بليغة.

رُفع اسم الملا معتصم من قائمة العقوبات التابعة لمجلس الأمن في 19 يوليو/تموز 2012 بعد تقديم الحكومة الأفغانية طلباً بذلك. وفي 12 فبراير/شباط 2014 أعلن معتصم أن عدة قادة من حركة طالبان اجتمعوا في دبي، ووافقوا على الشروع في حوار مع الأطراف الأفغانية، وهو ما نفته حركة طالبان في بيان رسمي أعلنت خلاله أن “أغا جان معتصم” لا يمثلها، وأن المكتب السياسي بالدوحة هو الجهة الوحيدة التي تمثل الحركة سياسياً.

الانتقام الغامض

 عاد جان معتصم من إقامته بالإمارات إلى العاصمة كابول في 2014 في ظل تقييم مسؤولين غربيين له بأنه قادر على جذب قادة كبار في طالبان لصفّه، لكن بالتحديد في 17 فبراير/شباط 2014 اغتيل ببيشاور أحد قادة طالبان ممن حضروا اجتماع دبي الذي انعقد قبل خمسة أيام، وهو عبد الرقيب تخاري وزير شؤون عودة المهجرين واللاجئين السابق في طالبان، وقد نفت طالبان ضلوعها في اغتياله، وُوجهت أصابع الاتهام لمجموعة منشقة عن الحركة. ولاحقاً كشفت صحيفة “واشنطن بوست” عن مفاجئة تتمثل في أن زعيم حركة طالبان “الملا أختر منصور” زار قبل اغتياله بشهر في عام 2016 إمارة دبي ضمن ثماني عشرة زيارة سرية قام بها إلى الإمارات لجمع الأموال من المتعاطفين مع طالبان.

وفي ظل تلك التطورات المتلاحقة، وقع حادث غير مسبوق في 10 يناير/كانون الثاني 2017 حيث انفجرت عبوة ناسفة في معقل حركة طالبان بمدينة قندهار في مقر حاكم الولاية خلال إقامته حفل عشاء لعدد من كبار الدبلوماسيين مما أدى إلى مقتل 13 شخصاً من الحضور بينهم  6 دبلوماسيين إماراتيين على رأسهم سفير الإمارات بأفغانستان جمعة الكعبي، وهو الهجوم الذي لم تعلن جهة محددة المسؤولية عنه، لكنه حمل رسالة ضمنية للإمارات بالكف عن محاولات استقطاب عناصر من داخل طالبان بعيداً عن قيادة الحركة.

 عقب حادث قندهار تراجعت ظاهرة عقد اجتماعات مع قادة سابقين بطالبان، واعتُمدت الدوحة كمقر رسمي للتفاوض، وبالأخص مع إعلان وزارة الخارجية الأمريكية في 2018 تعيين السفير الأمريكي السابق بالعراق وأفغانستان “زلماي خليل زاده” مبعوثاً خاصاً للتفاوض مع طالبان، بالتزامن مع إطلاق باكستان بطلب أمريكي سراح النائب السابق لمؤسس الحركة الملا عمر “الملا عبدالغني برادر” بعد اعتقاله ثماني سنوات؛ حيث تولى برادر رئاسة المكتب السياسي لطالبان بالدوحة، وتوجت المفاوضات بينه وبين خليل زاده في النهاية بالإعلان في 29 فبراير/شباط 2020 عن التوصل لاتفاق سلام بين طالبان وواشنطن.

لجوء أشرف غني للإمارات

استقبلت الإمارات الرئيس الأفغاني أشرف غني بعد هروبه من كابول في أغسطس/آب من العام الجاري، ومنحته حق اللجوء السياسي، لكن أبوظبي لم تعد فاعلة في المشهد الأفغاني بعد أن راهنت منذ عام 2001 على الطرف الذي خسر الصراع. لكن مؤخراً أعلنت أبوظبي إعادة فتح سفارتها في العاصمة كابول، وهو ما لم تفعله في فترة حكم طالبان الأولى، فيما أعلنت في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2021 شركة الطيران الأفغانية “أريانا” انطلاق أولى رحلاتها بشكل منتظم من كابول إلى مدينة دبي، بينما انخرطت الإمارات في محادثات مع حركة طالبان بخصوص المشاركة في إدارة مطار كابول.

وفي ظل ما سبق، تظل ورقة المساعدات الإنسانية والمشاريع الاستثمارية حاضرة بيد أبوظبي فضلاً عن التواجد الواسع للجالية الأفغانية بالإمارات، وهو ما يمكن توظيفه لإعادة بناء دور جديد للإمارات في الملف الأفغاني الذي يمثل نقطة تداخل مهمة بين القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، وساحة لإبراز الحضور والتأثير والفاعلية في المشهد الدولي.