السياسية:

بعد أن كانت منطقة الشرق الأوسط نفوذاً أمريكياً خالصاً طوال عقود مضت، أصبحت الصين الآن تمتلك الكلمة الأولى في المنطقة من خلال سلاح الاقتصاد، فما حجم الاستثمارات حتى الآن؟

وتاريخياً يمثل الشرق الأوسط مطمعاً للقوى الدولية الكبرى لأسباب معلومة تتعلق بالموقع الجغرافي والثروات الطبيعية، وتمتعت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بنفوذ هائل في المنطقة، بينما كانت الصين تعاني لبناء قوتها الاقتصادية والعسكرية دون ضجيج على المسرح الدولي.

وبينما اعتمدت واشنطن على قوتها العسكرية تعتمد بكين على سلاح أقل ضجيجاً، لكنه بات أكثر تأثيراً وهو السلاح الاقتصادي، وتناول تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية هذه القصة في تقرير بعنوان “كيف تُحكِم الصين قبضتها الاقتصادية على الشرق الأوسط”، رصد ما حققته الصين حتى الآن باستخدام سلاح المال.

الصين تبني العاصمة الإدارية في مصر

وبداية القصة من مصر، حيث يرتفع أعلى برج في إفريقيا، بطول 385 متراً، نحو السماء في العاصمة الإدارية الجديدة، وهي مشروع الرئيس عبد الفتاح السيسي الرائد، التي تقع على بعد 45 كيلومتراً شرق القاهرة.

ويستكمل آلاف العمال ومئات الشركات العمل على المدينة، التي من المتوقع أن تضم نحو 20 برجاً سكنياً ومكتبياً، بما في ذلك البرج الأيقوني المذكور أعلاه، و29 وزارة حكومية ومئات المكاتب الأخرى للشركات والمفوضيات التجارية.

وتُقدَّر تكلفة العاصمة التجارية بنحو 3 مليارات دولار، يأتي معظمها (نحو 85% تحديداً) من الحكومة الصينية. وتمثل مصر مركزاً سريع التطور للاستثمارات الصينية، بعدما أصبحت في السنوات الأخيرة نقطة انطلاق للمستثمرين الأجانب، مثل روسيا التي تبني محطة نووية على البحر المتوسط​، أو شركة Siemens الألمانية التي فازت بعقود لبناء نظام سكك حديدية مكهربة بتكلفة 23 مليار دولار.

والعاصمة الإدارية الجديدة ليست المشروع الوحيد الذي تشارك فيه الصين، فقد استثمرت بكين نحو 7 مليارات دولار في مشروعات صناعية على طول قناة السويس الموسعة -وهو مشروع آخر واسع النطاق بدأه السيسي ولكنه لم ينطلق بعد- وفي البنية التحتية.

العاصمة الإدارية في مصر تبلغ استثمارات الصين فيها 85%

وتشير التقديرات إلى أنه منذ عام 2016، ضخت الصين ما بين 16 إلى 20 مليار دولار في مصر، في شكل استثمارات وقروض ومساعدات أخرى ضمن مبادرة الحزام والطريق، التي أُطلِقَت في عام 2013، وتهدف إلى ربط الصين بآسيا والشرق الأوسط وأوروبا.

ومن المؤكد الآن أن التنافس بين الصين والولايات المتحدة على زعامة المسرح الدولي قد وصل إلى مرحلة متقدمة، وأصبحت بكين وتنامي نفوذها الدولي تمثل الهم الأكبر لصناع السياسة الأمريكية. وفي ظل الأهمية الاستراتيجية القصوى التي تتمتع بها منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي مثلت مسرحاً أمريكياً خالصاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تتعالى الأصوات في واشنطن محذرة من سعي التنين لأن يرث النفوذ الأمريكي في المنطقة.

وكانت مجلة Foreign Affairs الأمريكية قد تناولت هذه الفرضية في تحليل مفصل أعده ستيفن كوك، الزميل الأول لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، وجيمس غرين زميل البحث الأول بمبادرة الحوار الأمريكي الصيني حول قضايا العالم في جامعة جورج تاون الأمريكية.

وخلص التحليل إلى أن الوجود الصيني في المنطقة يأتي مدفوعاً بالشواغل الاقتصادية والأوضاع السياسية الداخلية أكثر منه بالرغبة في الهيمنة. فاعتماد بكين على الوقود الأحفوري، جنباً إلى جنب مع الرغبة في تجنيب نفسها الازدراء الإقليمي بخصوص معاملتها لمسلمي الإيغور، هو الدافع وراء الجزء الأكبر من تواصلها مع المنطقة.

استثمارات بكين في السعودية وإيران

في الوقت نفسه، تستثمر الصين المليارات في إثيوبيا وتساعدها في بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير على نهر النيل، وهو مشروع أصبح موضع خلاف بين القاهرة وأديس أبابا، وتصفه مصر بأنه تهديد وجودي. ومع ذلك، فإنَّ مصر، التي تحتاج إلى خلق حوالي مليون فرصة عمل جديدة سنوياً، لا يمكنها اللجوء إلى الصين للشكوى، وقد طلبت منها، دون جدوى، الضغط على إثيوبيا للتوصل إلى اتفاق بشأن ملء بحيرة السد.

لكن مصر ليست الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تتمتع بسياسة التوسع الاقتصادي الصينية، فالمملكة العربية السعودية هي أيضاً حليف اقتصادي قديم، في عام 2019 وقعت الصين والمملكة نحو 30 اتفاقية تعاون اقتصادي بقيمة نحو 28 مليار دولار.

الصين والسعودية وقعتا اتفاقية ضخمة لتوفير معدات طبية لمواجهة فيروس كورونا، رويترز

والصين هي الشريك التجاري الأكثر أهمية للسعودية بحجم تجارة سنوية يقارب 80 مليار دولار. ووقعت الصين مؤخراً اتفاقية لبناء مشروع للطاقة المتجددة في إطار رؤية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لتحقيق انبعاثات كربونية صفرية بحلول عام 2060، وقدّم السعوديون طلباً للحصول على ترخيص تداول مباشر في بورصة شنغهاي.

ولم تمنع العلاقات الاقتصادية الواسعة مع السعودية الصين من الاستثمار أيضاً في إيران، عدو الرياض، إذ تضمن اتفاقية تعاون مدتها 25 عاماً مع طهران بقيمة 400 مليار دولار وقعتها الدولتان في العام الماضي للصين مكاناً مميزاً في إيران. وفي الواقع تنظر طهران إلى الصين وروسيا بصفتهما بديلاً ضرورياً للعلاقات مع الغرب حتى لو وُقِّع اتفاق نووي جديد.

شمال إفريقيا وإسرائيل أيضاً

ولا تتجاهل الصين العراق وشمال إفريقيا ودول الخليج وبالطبع إسرائيل، ففي ظاهر الأمر لا يفرض توسع النفوذ الاقتصادي الصيني في المنطقة ثمناً سياسياً أو دبلوماسياً، إذ لا تشارك الصين في الأعمال العدائية الإقليمية مثل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، والحرب الأهلية في سوريا، والصراعات على السلطة في العراق.

ومع ذلك، فإنَّ الاعتماد المطلق للعديد من الدول على العلاقات مع الصين يخلق اعتماداً دبلوماسياً على بكين، ويضع هذه البلدان في معضلة: من ناحية تطالب الولايات المتحدة بتقليص العلاقات مع الصين، ومن ناحية أخرى تحتاج إلى الصين لتعزيز وضعها الاقتصادي.

هذا اللغز يرجح كفة الصين في مواجهة السياسة التي وضعها الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي جعلت الصين في قلب سياسته الخارجية، ونتيجة ذلك فإنَّ اللجنة الرباعية لآسيا والشرق الأوسط التي يحاول بايدن تشكيلها ضد الصين، والمكونة من إسرائيل والهند والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، تكشف بالفعل عن الصعوبة التي يواجهها. وتستجيب إسرائيل بالفعل لمطالب واشنطن في مجال التعاون التكنولوجي والعسكري مع الصين، لكنها لا تنظر إلى الصين على أنها دولة منافسة.

وعلى العكس من ذلك، تسعى إسرائيل جاهدة لتوسيع التجارة مع القوة العظمى الآسيوية. وفي زيارة للصين عام 2017، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو لمضيفيه إنَّ “إسرائيل هي شريككم الأصغر المثالي… هذا زواج مصنوع في الجنة”. وذلك في وقت أقامت فيه الصين تحالفَ تعاون استراتيجي مع مصر وإيران والسعودية والإمارات وقطر وتركيا.

ولطالما أعادت أبوظبي والرياض حساب مسارهما في مواجهة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وتحاولان إبقاء جميع الخيارات مفتوحة.

أما الهند تحديداً فهي قصة معقدة للغاية، وعلى الرغم من أنها تعتبر الصين منافساً/ خصماً يهدد تطلعات نيودلهي بأن تصبح قوة عالمية، يتطلب هذا التنافس تجنيد الهند لإيران، حليف الصين. ويمكن رؤية مثال على هذا الوضع المعقد في ميناء تشابهار، جنوبي إيران، حيث استثمرت الهند مئات الملايين من الدولارات لاستخدامه لنقل البضائع إلى آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وطريقاً لتجاوز باكستان.

وعلى بعد حوالي 70 كيلومتراً شرق هذا الميناء، استثمرت الصين في بناء ميناء كبير في جوادر الباكستانية، ضمن مبادرة الحزام والطريق. ومن المفترض أن يُستخدَم هذا الميناء لنقل البضائع من وإلى الشرق الأوسط. وقد أدت المنافسة بين هذه الموانئ بالفعل إلى تعزيز العلاقات بين الهند وإيران، في تناقضٍ تام مع نوايا الولايات المتحدة وإسرائيل.وسيكون من المثير رؤية كيف يناور بايدن بين المصالح المتناقضة لدول الشرق الأوسط وآسيا، وتطلعه إلى تشديد الخناق حول الصين، خاصة في ضوء الحافز الأمريكي الواضح والمتزايد لمغادرة الشرق الأوسط.

عربي بوست