السياسية:

تسيطر قضية تايوان وكيفية الرد في حالة تعرضها للغزو من جانب الصين على أروقة السياسة في واشنطن بصورة متزايدة، فزلات لسان الرئيس بايدن تثير القلق بشأن رد الفعل الأمريكي تجاه تحرك بكين الوشيك لضم تايبيه.

وباتت قضية تايوان وكيفية الدفاع عنها في وجه تحرك عسكري صيني، صار وشيكاً بحسب جميع المؤشرات، سؤالاً إجبارياً لا يبدو أن إدارة بايدن مستعدة لتقديم إجابة نموذجية أو حتى إجابة من أي نوع بشأنه، بحسب المنتقدين للإدارة.

كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولة ذات سيادة وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لا تزال تصر على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر.

ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول، إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.

الصين حسمت موقفها من تايوان

ونبدأ تفاصيل المأزق الأمريكي من بكين، إذ بات واضحاً أن الصين قد تقدم على ضم تايوان بالقوة العسكرية في أي وقت وبطريقة مفاجئة. وعندما دعت وزارة التجارة الصينية قبل أيام قليلة المواطنين لتخزين الغذاء استعداداً للطوارئ، كان غزو تايوان، أو ضمها كما يقول الصينيون، هو التفسير الذي تصدر قائمة التكهنات داخل البلاد وخارجها.

وقبل بضعة أسابيع، أرسلت الصين “عدداً غير مسبوق” من طائراتها العسكرية إلى منطقة الدفاع الجوي التايوانية على مدى 5 أيام، مما طرح تساؤلات بشأن الغرض الرئيسي لبكين من وراء ذلك التصعيد العسكري وتوقيته، ورأى كثير من المحللين أن ذلك لم يكُن مجرد استعراض للقوة فقط، بل ربما كان “بروفة” للغزو الفعلي.

هذه المؤشرات وغيرها جعلت السؤال لم يعد “هل” بل متى تقدم الصين على غزو تايوان؟، ومن ثم تنصب التحليلات على مدى قدرة تايوان على التصدي للغزو وكيف سيكون رد فعل واشنطن في تلك الحالة؟

ومنذ سنوات تقول الصين إنها أصبحت قلقة بشكل متزايد من أن حكومة تايوان تحرك الجزيرة نحو إعلان رسمي للاستقلال وتريد ردع رئيستها تساي إنغ ون عن اتخاذ أي خطوات في هذا الاتجاه. وكانت بكين قد زادت ضغوطها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية منذ وصول تساي إلى السلطة في عام 2016، ويُعرف عنها رفضها مبدأ “الصين الواحدة”.

وإذا كان ذلك هو الموقف في الصين، فالتدخل العسكري الأمريكي لحماية تايوان أمر يريده الكثيرون في واشنطن في حال تعرض تايبيه لهجوم عسكري من قبل بكين، وبات الاعتقاد السائد في أروقة واشنطن أن هذا التوجه ضروري لمواجهة الصين، الساعية، من وجهة النظر الأمريكية، لإزاحة الولايات المتحدة عن مقعد زعامة العالم.

وفي الصيف الماضي، عكس جوزيف بوسكو المسؤول السابق في البنتاغون رغبة الكثيرين عندما جادل بأن الكونغرس يجب أن يمرر قانون الدفاع عن تايوان لأنه “سيحرك سياسة الولايات المتحدة على بعد خطوة واحدة فقط من الالتزام الدفاعي المفتوح تجاه تايوان”.

ماذا يريد الكونغرس في ملف تايوان؟

مجلة Politico الأمريكية تناولت الموقف في واشنطن من هذه القضية في تقرير عنوانه “الكونغرس يضغط على بايدن كي يدافع عن تايوان”، رصد طبيعة الموقف المتأزم في البيت الأبيض تجاه هذا الملف الحساس للغاية.

فمن ناحية، يشعر أعضاء الكونغرس، جمهوريون وديمقراطيون بالقلق مما يصفونه بسلوك الصين العدائي بصورة متزايدة ويريدون استراتيجية أمريكية معلنة ومحددة للدفاع عن تايوان. لكن من جهة أخرى، يخشى البعض أن يكون أي تغيير في سياسة “الغموض” التي تتبعها واشنطن في هذا الملف استفزازاً تستغله الصين للهجوم على تايوان دون تردد.

وما يشعل الجدال أكثر في أروقة الكونغرس، بمجلسيه النواب والشيوخ، ليس فقط الاستفزازات العسكرية الصينية تجاه تايوان، بل أيضاً “الرسائل المرتبكة” التي تصدر عن الرئيس جو بايدن نفسه من وقت لآخر. وفي هذا السياق، يدرس بعض المشرّعين تقديم “تفويض وقائي” يسمح لبايدن باستخدام القوة العسكرية دون تردد إذا ما أقدمت بكين على غزو تايبيه.

ويعتبر مثل هذا “التفويض الوقائي” تخلياً عن سياسة “الغموض الاستراتيجي” التي تتبناها واشنطن بشأن تايبيه منذ أربعة عقود. وهذه السياسة منصوص عليها في قانون العلاقات مع تايوان الذي أقره الكونغرس عام 1979 وينص على أن الولايات المتحدة تظل غير ملتزمة بالإفصاح عما إذا كانت ستدافع عن تايوان من هجوم أو غزو صيني قد يحدث.

لكن التغيير في هذه السياسة قد تراه الصين استفزازاً وليس رادعاً، وبالتالي يأتي بنتيجة عكسية. وهذا ما عبر عنه جيم ريتش السيناتور الجمهوري البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ: “لا بد من أن تكون صياغة تفويض استخدام القوة في هذه الحالة دقيقة ومباشرة ومحددة جداً، لأن الموقف يحتاج لتوازن حافظنا عليه لسنوات طويلة وسيكون الإخلال بهذا التوازن مثيراً للمشاكل”.

ماذا عن موقف بايدن إذاً؟

ما يزيد الطين بلة، إن جاز التعبير هنا، هو بايدن نفسه، حيث تحول الرئيس إلى مصدر من مصادر عدم اليقين فيما يتعلق بملف تايوان وموقف الإدارة الأمريكية منه. فخلال مناقشة مع الصحفيين مؤخراً، على شبكة CNN، قال الرئيس: “إننا ملتزمون بأن نهب للدفاع عن تايوان إذا ما هاجمتها الصين أو قامت بغزوها”، في تناقض واضح مع سياسة “الغموض الاستراتيجي”.

وعلى الفور سارع مسؤولو البيت الأبيض إلى توضيح تصريحات الرئيس بالقول إنه “لم يعلن عن تغيير في السياسة الأمريكية بل كان يعبر فقط عن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن تايوان بشكل عام”.

وأصاب هذا التخبط المشرعين الجمهوريين، وبعض الديمقراطيين أيضاً، بخيبة أمل، إذ كانون يريدون أن يعلن بايدن بالفعل عن تغيير في السياسة الأمريكية، في ظل الاستفزازات الصينية المتكررة بل قرب بكين من غزو تايوان فعلاً.

ولا يمكن في هذه النقطة تجاهل تأثير الانسحاب الأمريكي من أفغانستان على ملف تايوان. فقد تناول موقع Responsible Statecraft الأمريكي مدى تأثير الانسحاب من أفغانستان على الموقف الإقليمي في آسيا بشكل عام، وسياسة الصين تجاه تايوان بشكل خاص، في تقرير أعده إيثان بول، الباحث المساعد والصحفي بمعهد كوينسي الأمريكي.

وكان جورج ستيفانوبولوس، المذيع بشبكة ABC الأمريكية، قد وجه سؤالاً مباشراً، الأربعاء 18 أغسطس/آب، للرئيس بايدن حول ما إن كان انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان يقود إلى التشكيك في مصداقية التزام أمريكا بحلفائها وشركائها، لا سيما تايوان. ونشرت صحيفة The Global Times وهي صحيفة صينية غير رسمية، مقالاً افتتاحياً يسخر من تايوان، وأعرب عن شماتة في أنَّ “دفاعها سينهار في غضون ساعات، ولن يأتي الجيش الأمريكي للمساعدة” في حال نشوب حرب.

اللافت هنا أن بايدن نفسه، قبل عشرين عاماً وكان وقتها رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، كان قد نشر مقالاً افتتاحياً في صحيفة Washington Post انتقد فيه جورج بوش الابن الرئيس الأسبق (كان الرئيس وقتها) لأن الأخير أعلن التزام بلاده بالدفاع عن تايوان، وهو نفس التصريح الذي أدلى به بايدن الرئيس مؤخراً.

كيف ترى الصين الموقف الآن؟

بالعودة إلى بكين، نجد أن الأمور أوضح كثيراً فيما يتعلق بتايوان. فبكين ترى أن تايبيه جزء لا يتجزأ من أراضيها وحسمت موقفها بالفعل من أن إعادة ضم الجزيرة، سواء بالقوة أو بالتفاوض، بات مسألة وقت فقط. لكن الأهم هو أن الصين أعلنت أن أي تدخل أمريكي يعني الحرب ولا شيئاً سواها.

وقد حذّر الإعلام الرسمي الصيني مؤخراً وبشكل واضح من أن المواجهة العسكرية بين واشنطن وبكين حول مستقبل تايوان “ستأتي” لا محالة، واصفاً السيناريو بأنه “صراع حياة أو موت” بين الأمتين، بحسب تقرير لمجلة Newsweek  الأمريكية، السبت 6 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.

ورصد تقرير المجلة الأمريكية مقال رأي نشرته صحيفة The Global Times، التي يُديرها الحزب الشيوعي الحاكم رداً على تحذير قيادات الجيش الأمريكي مراراً من تهديد الصين للحكم الذاتي في تايوان. وسلطت المقالة الافتتاحية للصحيفة الصينية الضوء على تصريحات وزير البحرية الأمريكي كارلوس ديل تورو، الذي أعرب الأسبوع الماضي عن قلقه بشأن “التوسع السريع” للبحرية الصينية، وسط تحذيرات متزايدة من أن بكين قد تتحرك عسكرياً للسيطرة على تايوان بالقوة.

وأشارت الصحيفة الصينية إلى أنهم بحاجة إلى توعية الولايات المتحدة بأنه- وبغض النظر عن التهديدات الأمريكية- فإن “إعادة توحيد الصين” ستحدث في النهاية، مؤكدة أن “وضع العقبات أمام إعادة التوحيد سيعني مواجهة أساسية”.

ورغم أن الصحيفة قالت إن الصين ليست مهتمة بخوض “سباق تسلح” مع الولايات المتحدة، إلا أنها أكدت أن بكين أكثر من قادرة على محاربة غريمتها، لافتة إلى أن “قدرة الصين على التغلب على التدخل العسكري الأمريكي في هذه المنطقة مضمونة بشكل كافٍ من خلال إرادتها ومواردها الاستراتيجية”.

وكان بايدن أيضاً قد أكد قبل أيام أنه لا يشعر بقلق من احتمال وقوع نزاع مسلح بين الولايات المتحدة والصين، مشيراً إلى “عدم وجود أي ضرورة لنشوب نزاع على الأرض”.

جاء ذلك رداً من بايدن على سؤال حول هذا الموضوع خلال مؤتمر صحفي عقده، الثلاثاء 2 نوفمبر/تشرين الثاني، في ختام مؤتمر الأمم المتحدة الـ26 لأطراف الاتفاقية الإطارية الخاصة بتغير المناخ في مدينة غلاسكو الأسكتلندية. وأشار بايدن إلى أن هناك ما يمكّن من تفادي اندلاع النزاع بين الطرفين، مشدداً على وجود قضايا متعددة يجب على الولايات المتحدة والصين العمل على حلها، بما في ذلك الأمن السيبراني.

عربي بوست