هل نجحت روسيا في منع الأوروبيين من استخدام أصولها المجمدة ؟
السياسية - وكالات - تقرير :
برزت قضية الأصول الروسية المجمدة في مصارف أوروبية كإحدى محطات الصراع الدائر بين موسكو وبروكسل منذ بدء الحرب في أوكرانيا.
وبعد تهديدات أوروبية لروسيا، استمرت أشهرا، باستخدام تلك الأصول لتمويل أوكرانيا، فشل قادة الاتحاد الأوروبي في اعتماد القرار وتمكنت بلجيكا، التي عارضت هذا القرار، من جذب عدد من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى إلى جانبها، وتم حجب القرار.
فأين تقف حدود المواجهة بين أوروبا وروسيا؟ وماهي المكاسب الاستراتيجية التي تحققها موسكو الآن بعد قرار القمة الأوروبية بتمويل أوكرانيا بعيداً عن الأصول الروسية؟
بعد شد وجذب وبعد أن كانت دول الاتحاد الأوروبي منقسمة بين من يؤيد فكرة استخدام الأصول الروسية المجمدة لتمويل أوكرانيا ومن يرفض الفكرة بسبب مخاوف قانونية ومالية، يبدو أن الأوروبيين فضلوا الابتعاد عما يثير مزيدًا من التوتر مع موسكو.
حيث توصل قادة الاتحاد الأوروبي، الجمعة، إلى اتفاق لتقديم قرض بقيمة 90 مليار يورو لأوكرانيا لسد العجز المتوقع في ميزانيتها، لكنهم أخفقوا في إيجاد تسوية لاستخدام الأصول الروسية المجمدة لتوفير التمويل.
ويمثل هذا الاتفاق الذي تم التوصل إليه خلال محادثات قمة الاتحاد في بروكسل، شريان حياة لكييف، في الوقت الذي يضغط فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أجل تحقيق اتفاق سريع ينهي الحرب المستمرة منذ نحو أربع سنوات.
وقال رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا الذي ترأس القمة "إن قرار اليوم سيوفر لأوكرانيا الوسائل اللازمة للدفاع عن نفسها ودعم الشعب الأوكراني".
قرض مدعوم من ميزانية الاتحاد
وبعد محاولات حثيثة لإيجاد حل، استقر قادة الاتحاد الأوروبي على فكرة تقديم قرض مدعوم من ميزانية التكتل المشتركة يوفر التمويل لأوكرانيا على مدى عامين.
وكان الخيار الأول المطروح هو الاستفادة من نحو 200 مليار يورو من أصول البنك المركزي الروسي المجمدة في الاتحاد الأوروبي، لتأمين قرض لكييف.
لكن هذا المخطط تهاوى بعد أن طالبت بلجيكا، حيث توجد الغالبية العظمى من الأصول، بضمانات بشأن تقاسم مسؤولية استخدام الأصول.
انتصار العقلانية
وفي مؤتمر صحفي بعد اختتام القمة، أعرب رئيس الوزراء البلجيكي بارت دي ويفر عن اعتقاده بأن "العقلانية انتصرت".
وأضاف "كان هذا الأمر برمته محفوفا بالمخاطر وخطيرا للغاية وأثار الكثير من التساؤلات ، لقد كان الأمر أشبه بسفينة تغرق، مثل سفينة تايتانيك. الأمر حُسم الآن ، والجميع يشعر بالارتياح".
وقال دي ويفر:"أعتقد أن القانون الدولي انتصر اليوم، وتجنبنا خلق سابقة يمكن أن تقوض اليقين القانوني في جميع أنحاء العالم، لقد دافعنا عن مبدأ أن أوروبا تحترم القانون ، حتى عندما يكون ذلك صعبا، وحتى تحت الضغط".
واعتبر المستشار الألماني فريدريش ميرتس الذي ضغط بشدة لاستخدام الأصول الروسية، أن الاتحاد الأوروبي وجه "رسالة واضحة" إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بموافقته على تقديم 90 مليار يورو إلى كييف.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ، إن "أوكرانيا لن تحتاج إلى سداد القرض إلا بعد أن تدفع موسكو تعويضات عن الأضرار التي تسببت بها" ، حسب تعبيرها.
واعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الإعلان عن هذا الدعم المالي يفتح المجال أمام استئناف الحوار السياسي مع روسيا.
وقال "في الأسابيع المقبلة، علينا إيجاد السبل والوسائل للأوروبيين، ضمن الإطار المناسب، للانخراط مجددا في حوار كامل وشفاف مع روسيا".
وكانت مواقف الدول الأوروبية قد شهدت تباينا قبل التوصل إلى الاتفاق، إذ شددت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين على ضرورة التوصل إلى حل مالي، وأكدت أن القادة الأوروبيين لن يغادروا القمة دون اتفاق.
ويقدر الاتحاد الأوروبي أن أوكرانيا تحتاج إلى 135 مليار يورو إضافية خلال العامين المقبلين، مع توقع أن تبدأ أزمة السيولة في أبريل.
وعلى الرغم من أن كييف قد تشعر بخيبة أمل؛ لأن الاتحاد الأوروبي لم يتخذ خطوة استخدام الأصول الروسية، إلا أن تأمين التمويل بطريقة أخرى يبعث على الارتياح.
موسكو: انتصار للقانون والمنطق
وفي رد الفعل الروسي ، وصف كيريل دميترييف المبعوث الخاص للرئيس الروسي ، تراجع الاتحاد الأوروبي عن مخطّطه لتمويل أوكرانيا من الأصول الروسية المجمدة بأنه "انتصار كبير للقانون والمنطق السليم".
وكتب دميترييف عبر منصة "إكس": "إذا تأكّد هذا الخبر، فإن إلغاء المخطط غير القانوني الذي اقترحه الاتحاد الأوروبي، سيكون انتصارا كبيرا للقانون وللمنطق السليم".
وأضاف أن هذا القرار يمثل أيضا انتصارا لـ"صوت العقل داخل أوروبا"، الذي دافع عن مصالح الاتحاد الأوروبي، واستقرار عملته الموحّدة (اليورو)، ونظام التسويات المالية "يوروكلير"، معتبرا أن "المضي قُدما في الخطة الأصلية كان سيعرض هذه الركائز للخطر".
كما اعتبر دميترييف أن القرار يشكّل "ضربة قوية جدا" لأولئك الذين يسعون إلى إطالة أمد الحرب، مستهدفًا بشكل مباشر رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حذر الجمعة ، من مصادرة الاتحاد الأوروبي للأصول الروسية ، مشددا على أنّ روسيا "مستعدة وراغبة" في إنهاء الحرب في أوكرانيا.
وشدّد بوتين ، خلال "الخط المباشر" والمؤتمر الصحفي السنوي المخصص للحديث عن نتائج العام 2025: على أن "مصادرة الأصول الروسية لن تكون مجرد ضربة لصورة الاتحاد الأوروبي، بل ستُقوّض الثقة في منطقة اليورو".
وأفاد بأنّ "روسيا ستدافع عن مصالحها المتعلقة بالأصول بالمقام الأول في المحاكم"، موضحاً أنّ "قرضاً لأوكرانيا بضمان أصول روسية سيزيد من ديون دول الاتحاد الأوروبي، في وقتٍ تعاني فيه هذه الدول أصلاً من مشكلات في ميزانياتها".
واعتبرت وزارة الخارجية الروسية، أن أفكار الاتحاد الأوروبي حول دفع روسيا تعويضات للجانب الأوكراني "منفصلة عن الواقع"، وأن بروكسل تمارس سرقة الأصول الروسية منذ فترة طويلة.
ومن إجمالي الأصول الروسية المجمدة في الاتحاد الأوروبي، والبالغة 210 مليارات يورو، يوجد 70 % منها ، أي 185 مليار يورو ، في مركز إيداع الأوراق المالية المركزي التابع لشركة "يوروكلير" في بلجيكا. ولذلك، كانت تخشى بلجيكا من الموافقة على الإفراج عن تلك الأموال بموجب خطة الاتحاد الأوروبي.
وتشمل الأصول الروسية المجمدة مجموعة واسعة من الممتلكات المالية والحسابات المصرفية والعقارات والأسهم والسندات والأصول الفاخرة ومعظمها من العملات الأجنبية والذهب والسندات الحكومية التي جرى تجميدها بعد فبراير 2022.
وتشمل هذه الأصول، حسب مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، يخوتا فاخرة وعقارات وطائرات بقيمة 58 مليار دولار، وقد طالت عمليات التجميد نحو 5 ملايين شخص من صغار المستثمرين، وفق البنك المركزي الروسي.
وفي استباق لقرار القمة الأوروبية، كان البنك المركزي الروسي، قد أعلن أنه يعتزم متابعة مطالبته بتعويضات أمام محكمة تحكيم روسية ضد البنوك الأوروبية عن الخسائر التي تكبدها نتيجة تجميد أصوله.
وقال البنك، في بيان تعليقًا على تصريحات الاتحاد الأوروبي حول تعليق النظر في مسألة مصادرة الأصول الروسية في "يوروكلير"، إحدى أكبر منصات المقاصة والتسوية المالية في العالم ، إن المحاولات المستمرة للاستيلاء على أصول البنك واستخدامها دون موافقته تشكل انتهاكًا للقانون.
وأكد البيان ، أن البنك سيطالب بتعويضات تشمل الأصول المحتجزة بشكل غير قانوني والأرباح المفقودة نتيجة التجميد والاستخدام غير المشروع لأصوله.
وكان مجلس الاتحاد الأوروبي قد اتخذ، في 12 ديسمبر الجاري، قرارًا بتجميد الأصول السيادية الروسية بشكل دائم.
وذكرت صحيفة بوليتيكو الأمريكية أن الخلافات تصاعدت بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن الخطة الأوروبية لاستخدام الأصول الروسية المجمدة.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أوروبيين رفيعي المستوى، قولهم إن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تضغط على دول الاتحاد لرفض الخطة الأوروبية التي تهدف إلى منح أوكرانيا قرضا من الأموال الروسية المجمدة.
وفي حين تحدثت مصادر أوروبية عن ضغوط أميركية، نفت المتحدثة باسم البيت الأبيض آنا كيلي هذه المزاعم، مؤكدة أن دور واشنطن يقتصر على "تسهيل الحوار بين الأطراف للتوصل إلى اتفاق".
ويريد الاتحاد الأوروبي الاستمرار في تمويل أوكرانيا وتمكينها من مواصلة القتال لأنه يرى في الحرب الروسية تهديدا لأمنه.
بدائل للنظام المالي الغربي
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي أندريه زايتسيف ، في تحليل نشره موقع "الجزيرة نت" ، أن قرار الاتحاد الأوروبي بتجميد الأصول الروسية بشكل دائم ستكون له تداعيات اقتصادية وسياسية لا تقتصر على روسيا وحدها، بل تمتد إلى دول الاتحاد الأوروبي أيضًا.
فبالنسبة لروسيا، سيؤدي القرار إلى فقدان طويل الأمد لإمكانية الوصول إلى الأصول السيادية التي يمكن استخدامها لدعم الاقتصاد وتمويل الميزانية، ما يعني بقاء هذه الأموال مجمدة إلى حين "دفع تعويضات لأوكرانيا"، وهو ما يزيد الضغوط المالية على موسكو، وفق توصيفه.
وفي المقابل، سيُرسي القرار الأوروبي سابقة قد تُقوض ثقة دول أخرى في النظام المالي الغربي، ويدفعها إلى البحث عن ولايات قضائية بديلة وأكثر أمانًا لإيداع احتياطياتها السيادية.
أما بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي، ولا سيما تلك التي تتركز فيها الأصول الروسية، فيحذر زايتسيف من تعرضها لمخاطر اتخاذ إجراءات انتقامية روسية ضد الأصول والمستثمرين الغربيين داخل روسيا.
ويختتم زايتسيف بالإشارة إلى أن روسيا ستواصل جهودها الرامية إلى تقليص الاعتماد على الدولار واليورو، والتوسع في التسويات التجارية باستخدام العملات الوطنية مع شركائها، بهدف تقليل الارتباط بالبنية التحتية المالية الغربية والحد من المخاطر المستقبلية.
تحويل المليارات المجمدة إلى سلاح
وتسلط ماري ديفسكي، كاتبة عمود لدى صحيفة إندبندنت، الضوء على أزمة تلوح في الأفق داخل الاتحاد الأوروبي بشأن ما إذا كان ينبغي مصادرة الأصول المجمدة منذ بدء الحرب في أوكرانيا عام 2022.
فرغم أن الاتحاد حافظ إلى حدّ كبير على وحدته في الدعم السياسي والعسكري لكييف، فإن هذا التماسك، وفق تحليل إندبندنت ، بات مهددا مع احتدام النقاش بين الدول المثقلة ماليا حول استخدام تلك الأموال لتمويل المجهود الحربي الأوكراني وضمان استمرار عمل الدولة.
وتضيف الكاتبة أن بوتين نجح بالفعل، عبر التهديد بالانتقام القانوني، في تحويل ملياراته المجمدة من نقطة ضعف إلى سلاح قادر على زعزعة استقرار منطقة اليورو وتقويض سيادة القانون.
وتمضي ديفسكي محذرة من أن الاتحاد الأوروبي إذا ما انقسم، فقد تكون العواقب وخيمة تتمثل في اضطراب اقتصادي، وتآكل السمعة القانونية، وتصعيد محتمل مع روسيا، بل ربما انهيار مالي لأوكرانيا إذا لم تتوافر مصادر تمويل بديلة.
ملامح أمن القارة الأوروبية
أما كاتيا غلود، نائبة رئيس قسم السياسة الخارجية في مركز الإستراتيجيات الأوراسية الجديدة، فتجادل في تحليلها في صحيفة "آي بيبر" البريطانية ، بأن روسيا تشن موجة غير مسبوقة من الهجمات الهجينة لخلق مناخ من "المخاطر والاضطراب والقلق".
وتضيف أن موسكو تسعى من خلال رفع مستوى المخاطر الأمنية داخل أوروبا، إلى صرف الانتباه عن دعم كييف، وإجبار القادة الأوروبيين على المفاضلة بين حماية بلدانهم ومساندة أوكرانيا، طبقا للتحليل المنشور في " آي بيبر".
وتزعم الكاتبة أن هذه الأفعال مستمدة مباشرة من أساليب جهاز الاستخبارات السوفياتي السابق (كي جي بي)، وتندرج ضمن إستراتيجية نفسية محسوبة تهدف إلى ترهيب الحكومات الأوروبية وزرع القلق في لحظة تفاوضية حساسة حول مستقبل أوكرانيا.
وتؤكد أن أهداف روسيا واضحة، وهي انتزاع تنازلات أوكرانية في ما يتعلق بالأراضي وحجم الجيش، وتقليص الدعم الغربي لكييف، وإعادة تشكيل النظام الأمني الأوروبي، وتجميد توسّع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإعادة فرض مناطق نفوذ على غرار الحقبة السوفياتية.
كما تشير غلود إلى ما تسميه "تأثير الرئيس الأميركي دونالد ترامب"، معتبرة أن موسكو تحاول إظهار قوتها وكشف الانقسامات الأوروبية بما قد يؤثر في الحسابات السياسية الأميركية ويضعف التضامن عبر الأطلسي.
وتحذّر من أن تردّد أوروبا قد يفضي إلى تهميشها في مفاوضات ستحدد ملامح أمن القارة لسنوات طويلة.

