إسرائيل تفتح أبواب الاقتصاد بالحديد والنار
كيان الأسدي*
بعد كل ما شهدناه من مجازر إبادة جماعية بحق أهل غزة، وبعد تلك الهجمات الوحشية التي جرّدت الإنسانية من معناها، وكشفت عن حقدٍ دفينٍ متجذّر لا يعيش إلا على اقتناص الفرص لإفناء هذا الشعب وتهجيره عن أرضه، بذريعة الحفاظ على ما تبقّى من "صورة إنسانية" زائفة، نجد ويا للمفارقة الفادحة من لا يزال يتاجر بلحم أطفال غزة وهم أحياء. يتباكى عليهم في العلن، ويتقمّص دور "الوسيط" الساعي إلى وقف الحرب من جهة، ثم يمضي، من الجهة الأخرى، ليعقد الاتفاقات الأمنية والاقتصادية مع القاتل ذاته.
هذا المشهد ليس جديدًا، بل هو سياسة دأبت عليها أنظمة بعينها، وفي مقدمتها مصر، التي ترفع راية الوساطة السياسية، فيما تذهب عمليًا إلى توثيق الشراكة الاقتصادية مع "إسرائيل"، وكان أبرز تجليات ذلك اتفاقات استيراد الغاز، التي حوّلت دماء الفلسطينيين إلى هامشٍ معزول عن حسابات الربح والخسارة.
"إسرائيل"، في جوهر استراتيجيتها، لا تكتفي بالحرب العسكرية، بل تخوض حربًا من نوع آخر: حرب الاقتصاد. فهي تعمل، بمساندة أميركية مباشرة، على فرض نفسها بالقوة ذاتها قوة الحديد والنار بوصفها العصب الاقتصادي للمنطقة. الغاز، هذه المرة، هو الشريان الذي يُراد له أن يتدفق، حاملاً معه خنق الدول واحدةً تلو الأخرى. البداية كانت مع مصر، ثم تُشدّ الحبال تدريجيًا باتجاه سوريا والأردن، في مسارٍ يبدو اقتصاديًا في شكله، لكنه أمني وسياسي في جوهره ونتائجه.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فهناك مساعٍ حثيثة وضغوط هائلة تمارسها الولايات المتحدة على لبنان للدفع به إلى الاتجاه ذاته: اتفاق اقتصادي مع "إسرائيل"، يتلازمه بالضرورة اتفاق أمني تحت عنوان "تجنب الحرب" ومنع توسّعها. وفي هذا السياق، يُطرح ملف إعادة الإعمار والدعم المالي كأدوات ابتزاز ومساومة، تُلوَّح بها لإجبار لبنان على الانخراط في هذا المسار. وقد بدأ هذا النهج يتجسد عمليًا عبر إدخال المفاوض المدني إلى لجنة "الميكانيزم"، ورفع "إسرائيل" مستوى تمثيلها فيها، تعويلًا منها على أن تكون هذه اللجنة بوابة إخراج المشهد المقبل، لا مجرد إطار تقني عابر.
وعند هذه النقطة، يتضح أن الصورة أوسع وأخطر من اتفاق هنا أو تفاهم هناك. نحن أمام شبكة مشاريع مترابطة، تبدأ من مشروع العقبة وربط أنابيب النفط عبر الأردن، الذي يتحول إلى حلقة وصل للنفط العراقي باتجاه "إسرائيل"، مرورًا بدور ميناء جيهان، والنفط المهرّب من إقليم كردستان العراق عبر تركيا إلى الداخل الإسرائيلي، وصولًا إلى الموانئ الإماراتية وحجم التبادل الاقتصادي المتنامي، الذي بات يشكّل ركيزة أساسية في هذا البناء الإقليمي الجديد.
كل هذه المسارات، على اختلاف جغرافيتها وتفاصيلها، ليست منفصلة عن بعضها، بل تشكّل أجزاءً من مشروع واحد، هدفه النهائي أن تصبح "إسرائيل" محور اقتصاد المنطقة، وقلبها النابض، بحيث لا يمر نفط، ولا غاز، ولا تجارة، ولا إعادة إعمار، إلا عبرها أو برضاها. عندها، لن تكون الهيمنة بحاجة إلى الدبابة والطائرة فقط، بل ستُفرض عبر الأنابيب والموانئ والعقود، لتتحول السيطرة من احتلالٍ عسكري مباشر إلى احتلالٍ اقتصادي طويل الأمد، أشد فتكًا وأعمق أثرًا.
وهكذا، بينما يُقتل الفلسطيني بالسلاح، يُستكمل حصاره بالاقتصاد، وتُعاد صياغة المنطقة على مقاس كيانٍ لا يرى في الدماء إلا وسيلة، ولا في الاتفاقات إلا غطاءً ناعمًا لهيمنةٍ قاسية، تُفتح أبوابها… بالحديد والنار.
*كاتب عراقي
*المقال يعبر عن رأي الكاتب

