حرب استباقية على التشييع: عندما يخاف العالم من جنازة
مريم السبلاني*
لم يُحمل الجثمان على الأكتاف بعد، لم تمتلئ الشوارع بالحشود ولم يصرخ شعبه التزاماً بالوعد، لم توثّق عدسات الكاميرات بعدُ هيبة المشهد، لكن ما يجري بكواليس الغرف المغلقة تفضحه الحماقة: العالم يخاف من الجنازة!
استنفار سياسي إعلامي وأمني غير مسبوق، لمنع الناس من التوافد إلى بيروت. ليس لأن الأمر يتصل بأمن العاصمة، بل لأن مشهداً واحداً يوم الأحد، ينسف كل المشاريع التي صاغتها عقول دوائر القرار في تل أبيب وواشنطن. وللمفارقة، أن الذين جادلوا منذ اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد الشهيد حسن نصرالله بأن المقاومة قد هُزمت بالفعل، وفقدت شعبيتها وشرعيتها، يستشرسون في ابتكار أساليب تمنع اتمام الحدث، كما لو أنه تهديد استراتيجي وجودي لهم. لذلك، بدأ هؤلاء حربهم الاستباقية على التشييع.
منذ اللحظة الأولى، بدأت حملة دولية هدفها منع الحشود من التوافد إلى بيروت. وعندما نقول "دولية" فإننا نقصدها بحرفيتها. شركات الطيران ألغت حجوزات مئات المسافرين القادمين من تركيا والدول الأوروبية (أكثر من 120 رحلة قادمة من أوروبا تم الغاؤها أو تأخيرها لما بعد 23 شباط. الطيران التركي ألغى 20% من رحلاته رسمياً، ومنها رحلات كانت قادمة من ألمانيا)، دون تقديم تبريرات واضحة. كما أن بعض المطارات شهدت استدعاء مسافرين لبنانيين والتحقيق معهم حول أسباب سفرهم، في مشهد لم يحدث حتى في أحلك فترات الحرب الأهلية اللبنانية.
الضغوط لم تتوقف عند حدود المطارات. بل شملت الشركات والمؤسسات والصحافة التي تسوّق لرواية الترهيب من الحضور، كما المطاعم والجمعيات التي هددت الموظفين بالطرد. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ترتفع نبرة التحريض، كأنّنا عشية حدث جلل يهدد النظام العالمي القائم.
إحدى أبرز المعارك التي تخوضها الدوائر الغربية اليوم، ليست فقط في الميدان السياسي، بل أيضاً في ميدان الذاكرة والخشية من التوثيق. وسط رغبة في ابقاء هذا الحدث عابراً، دون صور ومشاهد تشكل زخماً لكل المراحل القادمة، وتكشف حجم المشاركة الشعبية، حتى أن شركات التكنولوجيا الكبرى بدأت بتضييق الخناق على الحسابات (فيسبوك انستاغرام...) التي تواكب التحضيرات خطوة بخطوة، وتحذف أي منشورات تتعلق بالتشييع حتى قبل أن يبدأ.
لكن، فلنعد خطوة إلى الوراء ونسأل سؤالاً بديهياً: إذا كان حزب الله قد هُزم، كما يزعم خصومه، وإذا كان جمهوره متعباً، منهكاً ومحبطاً، فلماذا كل هذا الذعر من جنازة؟ لماذا يحتاج هؤلاء إلى كل هذا الجهد لمنع الناس من المشاركة، حتى وصل بهم الأمر ترويج سيناريو الاعتداء الإسرائيلي المباشر على المشيّعين؟
الواقع أن المعركة ليست على تشييع رجل، بل على طمس رمزية هذا الرجل وما يمثله في الوعي الجماعي. عندما يخرج مليون شخص ليهتفوا باسمه، فإنهم لا يهتفون لرجل قُتل، بل لقضية لم تُهزم. عندما تمتد الحشود من الضاحية إلى بيروت، فإنها تحمل معها رسالة أقوى من الصواريخ وأكثر وضوحاً من الخطابات: نحن هنا، ونحن مستمرون، وهذه الأرض لنا.
هذه ليست مجرد جنازة، إنها استفتاء شعبي على المعركة الكبرى التي تخوضها المقاومة منذ أربعة عقود. إنها لحظة إعلان صريح أن القتل لن يغيّر شيئاً. الحقيقة، هم لا يخافون من الجثمان، بل من الذين سيسيرون خلفه.
الهجمة على مراسم التشييع ليست فقط صراعاً سياسياً، بل هي أيضاً انعكاس لصراع أعمق حول المعنى والقيم والتجربة التاريخية. هناك مجتمعات بأكملها لم تختبر في تاريخها السياسي لحظة بحجم هذه اللحظة، لم تعرف معنى أن يكون لديها قائد اختار المواجهة حتى النهاية. بالنسبة لهم، القيادة هي وظيفة، والمنصب هو غاية، والتحالفات تُبنى على المصالح لا المبادئ. لذلك، فإن مشهداً كهذا، حيث الملايين تستعد لتوديع قائد لم يخذلها يوماً، هو مشهد صادم، بل مستفز، لأنه يعيد تذكيرهم بفشل تجاربهم السياسية، ويكشف خواء رموزهم.
جزء من هذه الهجمة يأتي من نخبة سياسية وإعلامية فقدت كل صلة بالمشاعر الجمعية لجماهيرها، لكن الجزء الأخطر يأتي من بيئة اجتماعية لم تُمنح يوماً هذا الحق في الفخر، لم تعش لحظة ترى فيها قائدها يسير نحو المواجهة بدل أن يركض نحو السفارات. هذه البيئة جُرّدت من أي تجربة شبيهة، لذا فإنها ترفض مجرد القبول بإمكانية وجود زعيم بهذا الحجم، ليس لأنها تعتقد أن المقاومة مخطئة فقط، بل لأنها لم تختبر شعوراً مماثلاً من العزة والكرامة في يوم من الأيام.
هذا الحرمان من التجربة يجعل البعض يشن هجومه على التشييع لا لأنه يخاف من الأثر السياسي فحسب، بل لأنه يشعر بأنه قد فاته أن يكون جزءاً من لحظة تاريخية لا تتكرر. فبعض المعارك لا تُخاض بالسلاح فقط، بل أيضاً بالمشاعر والقيم، وما يجري اليوم هو صراع بين من يملك ذاكرة ممتلئة بالمواقف والتضحيات، ومن يعاني فراغاً وجودياً يحاول ملأه بالتحريض والحقد.
* المقال نقل حرفيا من موقع الخنادق اللبناني ويعبر عن وجهة نظر الكاتب