“المَلِك فوق أي نقد”.. كيف تُخضِع الدولة الأردنية الصحفيين للرقابة المشددة بعدما تملَّكت معظم وسائل الإعلام المحلية؟
السياسية:
تناولت مجلة Foreign Policy الأمريكية الرقابة المشددة التي تفرضها السلطات الأردنية على الصحافة المحلية، والتي ازدادت حدتها خلال السنوات الأخيرة من خلال القبضة الأمنية والعديد من القوانين واللوائح التي تقيّد عمل الصحافة.
ويروي الكاتب في المجلة، داوود كُتّاب، المدير العام لشبكة الإعلام المجتمعي التي تدير “راديو البلد” وموقع “عمان نت” الإخباري في الأردن، تجربة مؤسسته في الرقابة الأمنية على الصحافة، وذلك بعد تغطية موقعه “عمان نت” لتسريبات وثائق باندورا التي تناولت أملاك العاهل الأردني عبد الله الثاني في الخارج، في الوقت الذي يعاني فيه الأردنيون من أزمات اقتصادية متراكبة.
بأمر من المخابرات الأردنية “يرجى حذف المقال”
يقول كُتّاب: كانت الساعة الثامنة والنصف مساءً من يوم 3 من أكتوبر/تشرين الأول، ولم يتوقَّف هاتفي عن الرنين. كنت أعرف من المتصل وماذا يريد بالضبط، لكنني لم أرد. قبل ذلك بثلاث ساعات، نشر محرِّر الموقع الإخباري عمان نت، الذي أشرف عليه بصفتي المدير العام لشبكة الإعلام المجتمعي في الأردن، إعادة كتابة إخبارية لمُلخَّص BBC لأوراق باندورا، وهو تسريبٌ كاسح تضمَّن تفاصيل عن مقتنيات عقارية خاصة بالملك عبد الله، ملك الأردن، بالخارج. وفقاً للوثائق المُسرَّبة، التي حصل عليها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين ونشرها بدوره، اشترى العاهل الأردني حوالي 14 منزلاً فاخراً في الولايات المتحدة وأوروبا بين عاميّ 2003 و2017 بتكلفة 106 ملايين دولار.
بعد أن لاحظ المتصل أن هاتفي مشغول، لجأ إلى تطبيق واتساب ليخبرني بما يريد. كتب: “مساء الخير”، ثم أرسل رابطاً للقصة المنشورة على “عمان نت” بعنوان “أوراق باندورا تكشف العقارات التي يمتلكها الملك في الخارج”، وأضاف: “يُرجى حذفها للأهمية”. كان ذلك هو مسؤول العلاقات الصحفية في دائرة المخابرات العامة الأردنية.
كنت ألاحق الوقت. أجبته قائلاً: “سأتعامل مع هذه المسألة على الفور”. كرَّرَ المسؤول طلبه بشيءٍ من اللين، لكن مع إصرارٍ أيضاً، قائلاً: “أرجوك يا عزيزي”. استخدمت الدقائق القليلة، التي علمت أنها فقط المسموحة لي، في الاتصال برئيس مجلس إدارتنا طلباً للتوجيه. لم يكن موجوداً، فاتصلت هاتفياً بزميلةٍ رفيعة المستوى لطلب النصيحة منها. ذكَّرَتني بأن إذاعة راديو البلد، التي هي أيضاً جزءٌ من شبكة الإعلام المجتمعي، كانت تخطِّط للتقدُّم بطلبٍ للصول على ترخيصٍ في مدينة المفرق. ونصحتني بأننا إن لم نحذف القصة المنشورة “فلننسَ الحصول على ترخيص”.
بعد ثماني دقائق من رسائل مديرية المخابرات العامة، طلبت أخيراً من مدير تحرير عمان نت، الصحفي محمد عرسان، حذف القصة. كان قلقي المباشر هو وضع موظفينا. ورغم عدم وضوح العواقب المباشرة التي كانت ستحدث لو لم ألتزم بأمر مديرية المخابرات العامة، من شبه المؤكَّد أنها كانت ستطلق حلقةً من المضايقات البيروقراطية التي كان من الممكن أن تؤدِّي إلى رفض المنح وفرض قيود خطيرة أخرى على عملنا.
على حدِّ علمي، كنَّا الوسيلة الإعلامية الوحيدة في جميع أنحاء الأردن التي أبلغت عن تورُّط الملك عبد الله في أوراق باندورا، ولمدة ثلاث ساعات، تمكَّن العديد من الأردنيين من قراءة القصة باللغة العربية عن العقارات الفاخرة المملوكة لملكهم. بعد ذلك، حُذِفَت الصفحة، وعادوا مرةً أخرى إلى المقالات التي تنشرها Washington Post وغيرها من المنافذ الأجنبية، بما في ذلك المنافذ العربية غير الأردنية.
“الملك في الأردن فوق أي نقد”
يقول داوود كتّاب في مقالته بفورين بوليسي: كان رئيس التحرير لدينا يشعر بالقلق من أن يكون قد انتهك القانون الأردني. في نظامٍ ملكيٍّ مثل الأردن، الملك فوق أيِّ نقد. يحكم الملك عبد الله عبر حكومةٍ يعيِّنها ويمكنه عزلها في أيِّ وقت. والمساءلة، وفقاً لذلك، تعني السماح لهذه الحكومة بتحمُّل النقد، ولكن هذا النقد لا يشمل أبداً الملك الذي يظل فوق كلِّ شيء.
وفقاً لمؤشِّر حرية الصحافة العالمي لعام 2021، الذي أعدَّته منظمة “مراسلون بلا حدود”، يحتلُّ الأردن المرتبة 129 من بين 180 دولة في حرية الصحافة. وهذه المرتبة المتدنية هي إلى حدٍّ كبير نتيجة لقوانين وممارسات وسائل الإعلام التقييدية في البلاد. ولعلَّ الأكثر ضرراً هو القوانين المتعلِّقة بملكية وسائل الإعلام، والتي منحت الحكومة دوراً مباشراً في عمليات معظم الشركات الإعلامية، وخلقت ثقافةً سائدة للرقابة الذاتية بين الصحفيين. في بعض الأحيان، يُترَك 10 ملايين شخص يعيشون في الأردن معتمدين على وسائل الإعلام الدولية لمعرفة ما يحدث في بلدهم.
تمتلك الحكومة الأردنية، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، معظم وسائل الإعلام داخل حدودها. أُنشِئ راديو وتلفزيون الأردن باعتباره جهةً عامة، لكنه في الواقع ليس أكثر من لسان حال الحكومة. يُموَّل من خلال رسوم ترخيص تجمع ديناراً واحداً من فاتورة الكهرباء الشهرية لكلِّ أسرة، ويُعيَّن مجلس إدارتها ومديرها من قِبَلِ الحكومة التي يعيِّنها الملك، ونادراً ما ينحرف عن الخط الرسمي. لا أتذكَّر آخر مرة ظهر فيها زعيمٌ معارض في أحد برامجه.
أُنشِئ تلفزيون جديد، وهو قناة “المملكة”، بموجب مرسومٍ ملكي في عام 2015، بهدفٍ جريء هو التنافس مع عمالقة التلفزيون الناطقين بالعربية، مثل شبكتيّ الجزيرة والعربية. يُموَّل “المملكة” مباشرةً من خزائن الحكومة، وتعيِّن الحكومة مجلس إدارته ومديره التنفيذي. ومنذ تأسيسه، حاول الابتعاد عن الخط الحكومي، وقُلِّصَت ميزانيته السنوية البالغة 20 مليون دينار، إلى 9 ملايين دولار، دون إبداء الكثير من التوضيح.
ومع ذلك، لم تكن هذه الخطوة ذات أهميةٍ كبيرة، فتلفزيون “المملكة” لا يزال يتجاهل تغطية صراع الملك عبد الله مع وليّ العهد السابق الأمير حمزة بن الحسين- الصراع الذي شبَّهه الملك بـ”الفتنة”- وكذلك أوراق باندورا. في غضون ذلك، حاولت محطة تلفزيون “رؤيا” الخاصة، المملوكة لمجموعة عائلة الصايغ، السير على حبلٍ مشدود في تغطيتها السياسية. وبعد بضع سنواتٍ صعبة، بدأ تلفزيون “رؤيا” في جني الأموال أخيراً، لكنه لا يمس أياً من القصص السياسية الكبيرة التي تثير أمواجاً في الداخل والخارج حول النظام الملكي.
سيطرة الدولة الأردنية على وسائل الإعلام إدارة وتمويلاً
الحكومة أيضاً لها يدٌ نافذة في الراديو. إذاعة “هلا” الرائدة في الأردن مملوكة للقوات المسلَّحة الأردنية، ومحطةٌ رئيسيةٌ أخرى، وهي إذاعة الأمن العام، مملوكة للشرطة الأردنية. ورغم أن هاتين المحطتين تعتمدان على الإعلانات لتمويل برامجها، غالباً ما تكون تكاليف تشغيلهما منخفضةً بسبب ارتباطهما بالحكومة.
وبالإضافة إلى هاتين المحطتين، هناك عددٌ من المحطات الإذاعية المرتبطة بالمؤسسات العامة مثل بلدية عمان، التي يعيِّن الملك رئيسها، أو الجامعات المُمَوَّلة من القطاع العام، التي تعيِّن حكومة الملك مجالسها. تُعفَى هذه المحطات من دفع رسوم ترخيص إذاعية تجارية ضخمة، قدرها 25 ألف دينار للمحطات في عمان، بينما تخضع المحطات الإذاعية المجتمعية وغير الهادفة للربح، مثل راديو البلد، لهذه الرسوم.
لا يختلف الأمر كثيراً في عالم الصحف. تمتلك مؤسسة الضمان الاجتماعي شبه الحكومية حصة الأغلبية في صحيفة الرأي الأردنية المُسجَّلة، وحصة أقلية في صحيفة الدستور، وهي صحيفةٌ حكومية بارزةٌ أخرى.
العديد من وسائل الإعلام الأخرى، مثل صحيفة الغد، مملوكة لرجال أعمالٍ موالين للحكومة تماماً. ونادراً ما تتجاوز هذه المنافذ الإعلامية ما تعتبره معايير مقبولة للتغطية الإعلامية، مِمَّا يخلق مشكلة الرقابة الذاتية. يقوم مركز الدفاع عن الصحفيين، ومقره عمان، بإجراء مسحٍ سنوي للصحفيين في الأردن. وعند سؤالهم عمَّا إذا كانوا يمارسون الرقابة الذاتية بانتظام على عملهم، أجاب 94% من المشاركين في استطلاع 2017 بنعم.
خنق العمل الصحفي
بالإضافة إلى اللوائح الأردنية المتعلِّقة بملكية وسائل الإعلام، فإن العديد من القوانين الأخرى في البلاد تضعف- بشكلٍ مباشر أو غير مباشر- عمل الصحفيين. ينظم قانون المطبوعات والنشر الصادر عام 1998 إصدار المطبوعات والكتب، ويسرد العديد من الاستثناءات لحرية التعبير المنصوص عليها في الدستور الأردني.
وصدر قانون الإعلام المرئي والمسموع عام 2003 لينظِّم تراخيص محطات الإذاعة والتلفزيون. وينصُّ على أن تُدار هيئة الإعلام الأردنية من قِبَلِ شخصٍ تعيِّنه الحكومة، وأن للجنة الحق في إغلاق البث إذا انتهك أحد المحظورات العديدة على المحتوى المُحدَّدة بشكلٍ غامض. وعلاوة على ذلك، فإن قانون العقوبات الأردني، وقانون مكافحة الإرهاب، وقانون السب والقذف، وقانون الذات الملكية، من بين أمورٍ أخرى، تخنق الصحافة الحرة.
سمحت الثورة الرقمية للأردنيين في البداية بمتابعة وسائل الإعلام بما يتجاوز ما وافقت عليه الحكومة رسمياً، ولكن سرعان ما أُصيبَت شبكة الإنترنت بذلك بسبب القيود الخاصة عليها. في البداية، اعتمدت الحكومة على الخط غير الواضح بين المنشورات على الإنترنت والمنشورات المطبوعة لفرض رقابة على الوسائط الرقمية. وبمرور الوقت، شدَّدت الحكومة من موقفها، فأخضعت وسائل الإعلام الرقمية لقواعد أكثر تقييداً، وربما أكثر إقراراً بقوتها التي لا رادع لها.
في عام 2013، حجب الأردن 300 موقع إخباري لعدم التقدُّم بطلبٍ للحصول على ترخيص صحيفة. وفي عام 2015، أصدرت الحكومة قانوناً مثيراً للجدل خاصاً بالجرائم الإلكترونية شدَّدَ القيود على التعبير الرقمي. والأكثر إثارة للجدل من بين أحكام ذلك القانون هو المادة 11، التي تسمح للحكومة باحتجاز أيِّ شخصٍ، بما في ذلك الصحفي، إذا شعرت المخابرات العامة أن ما كتبه على الإنترنت يُعَدُّ تشهيراً. وهذا مخالفٌ لقانون الصحافة والمطبوعات، الذي جرى تحديثه منذ إقراره ويتضمَّن الآن بنداً يقضي بعدم جواز حبس الصحفيين بسبب ما يكتبونه في وسائل الإعلام المطبوعة.
ونتيجةً لذلك يمكن للصحفي أن يفلت من مقالٍ نُشِرَ في صحيفةٍ مطبوعة، لكنه سيُسجَن (إلى حين أن يصدر القاضي حكمه) إذا ظهر المقال نفسه على الإنترنت. تطول قائمة الموضوعات المحظورة، وهي غامضةٌ في طبيعتها، وتشمل عموماً قضايا مثل الوحدة الوطنية، والهوية الأردنية، والسياسة النقدية الخاصة بالدينار. وبالطبع فإن الملكية والقوات المسلَّحة خطٌّ أحمر.
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولايعبر عن راي الموقع