السياسية:

يعمل علماء بريطانيون من جامعة بورتسموث على تطوير مادة خرسانية قوية جداً لحماية البنايات المدنية والبنى التحتية من هجمات أقوى القنابل، مما يرفع سقف الحماية لمستويات أفضل من ذي قبل. وتقول العالمة ستيفاني بارنيت، التي تعمل على هذا الابتكار، لمجلة Popular Mechanics الأمريكية: “قال لي أحد الضباط ذات مرة: “إذا صنعتم هذه المادة الأقوى في مقاومة الانفجارات والصدمات، فسوف يتعيّن علينا التفكير في كيفية اختراقها”، حسب تعبيره. فما قصة السباق الصامت بين اختراع قنابل مخترقة للتحصينات وبين ابتكار خرسانة فائقة المناعة والمقاومة للانفجارات؟

ابتكار خرسانة فائقة المناعة يعني صنع قنابل أقوى
يُمكن القول إن الخرسانة الأقوى تُثير الحاجة لتطوير قنابل أقوى في اختراق التحصينات؛ حيث طلبت كيان إسرائيل من الولايات المتحدة الحصول على القنابل مخترقة التحصينات الجديدة الأقوى في عام 2005، وحصلت عليها بحلول عام 2009. وبلغ وزن القنبلة جي بي يو-28 نحو 2.2 طن كيلوغرام، مع قوة اختراق تبلغ أربعة أضعاف الجيل السابق الذي كانت تمتلكه القوات الجوية للاحتلال.

لكن جيش الاحتلال يريد رفع سقف التحدي من جديد اليوم بعد أن طلب من سلاح الجو الأمريكي الحصول على قنبلة “المخترق 5K المتطورة” جي بي يو-72، التي ليست في الخدمة حتى الآن ولم يتم اختبارها أول مرة إلا في أكتوبر/تشرين الأول 2021.

ويأتي تطوير جي بي يو-72 ورغبة جيش الاحتلال الإسرائيلي في الحصول عليها ليسلطا الضوء على سباق التسلح الصامت بين القنابل القوية والخرسانة الأقوى، لكن يبدو أن الخرسانة متقدمةٌ في هذا السباق، بحسب مجلة Popular Mechanics.

ما أساسيات اختراق التحصينات؟
قدمت القوات الجوية الأمريكية أول قنبلة حديثة مخترقة للتحصينات في عام 1985. وتتمتع القنابل متعددة الأغراض عموماً بهيكلٍ فولاذي خفيف ومليء بالمتفجرات، بينما تتمتع مخترقات التحصينات بهيكلٍ أقل عرضاً مع غلافٍ أكثر سمكاً ومتفجرات أقل. ويرمي هذا التصميم بثقله على منطقةٍ أصغر، لتُصبح القنبلة أشبه بمخرز الثلج وليس المطرقة، وتتمكن بالتبعية من اختراق الخرسانة أو الأرض لضرب الأهداف المدفونة على أعماقٍ منخفضة.

وفي مطلع الألفية الحالية، طوّرت القوات الجوية الأمريكية نوعاً خاصاً من الفولاذ لهذه القنابل تحديداً، وأطلقت عليه اسم “فولاذ إيجلين”. ويُعتبر فولاذ إيجلين من أنواع الفولاذ منخفض الكربون والنيكل مع القليل من التنجستن، والمنغنيز، والسيليكون، والعناصر الأخرى التي يُضيف كل منها خاصيةً مطلوبة إلى المنتج النهائي. ويُمكن وصف فولاذ إيجلين بأنه يمثل المعيار الذهبي للذخائر مخترقة التحصينات، لكن السنوات الأخيرة شهدت استبداله بفولاذ القوات الجوية-96 الذي يتمتع بأداءٍ مماثل لكن إنتاجه أسهل.

ويفصل علماء المواد عموماً بين صفتي المتانة والصلابة، ويُمكن القول إن التوازن بينهما هو المحرك الأساسي للسباق بين الأسلحة والدروع.

وربما يحظى المهاجم بأفضلية الفولاذ، لكن الدفاعات تعتمد على الخرسانة التي دخلت السباق بعيبٍ أساسي؛ حيث قال الأستاذ فيل بورنيل، خبير تقنية الخرسانة في جامعة ليدز: “تُعتبر الخرسانة هشةً بطبيعتها. ولهذا يناسبها أن تتعرض للسحق، وليس التمدد. ويؤثر هذا الضعف على قدرة الشد ومتانة الخرسانة”.

ما قصة الخرسانة فائقة المناعة والأداء؟

لكن هذا العيب اختفى مع ظهور نوعٍ جديد من الخرسانة يُطلق عليها اسم الخرسانة فائقة المناعة UHPC. وكانت قوة خضوع الخرسانة العادية المقدرة بـ5,000 رطل لكل بوصة مربعة تُعتبر قوةً مرتفعة في السابق، وربما تصل إلى 10,000 رطل لكل بوصة مربعة في أفضل الأحوال. لكن الرقم يصل إلى 40,000 رطل لكل بوصة مربعة أو أكثر مع الخرسانة فائقة المناعة.

ونحصل على هذه القوة الأكبر عن طريق تحويل الخرسانة إلى مادة مركبة بإضافة الفولاذ أو الألياف. وتستطيع هذه الألياف الحفاظ على تماسك الخرسانة ومنع انتشار التشققات فيها، مما يلغي أثر هشاشة الخرسانة. وأوضحت العالمة ستيفاني للمجلة الأمريكية: “بدلاً من الحصول على عدة شقوق كبيرة في اللوح الخرساني، ستحصل على الكثير من الشقوق الصغيرة؛ لأن الألياف تزيد طاقة التصدّع”.

ويجري الباحثون تجاربهم من أجل العثور على أفضل خليط ألياف لصنع الخرسانة فائقة المناعة. وتعمل العديد من الفرق حول العالم على ابتكار تكتيكات مختلفة لمزج الألياف بنجاح. وأوضحت ستيفاني أن غالبية هذه الأبحاث تجري بواسطة الجيوش، لكن الجيش يطرح الأسئلة على الباحثين المدنيين أحياناً دون أن يُفصح عن أي معلومات توصل إليها.

هل توجد مخابئ محصنة بدرجةٍ يستحيل اختراقها فعلياً؟
في عام 2012، أطلقت القوات الجوية الأمريكية مشروعاً لتقييم التحديات التي تمثلها المخابئ المصنوعة من الخرسانة فائقة المناعة. وانتهى الأمر بالقوات الجوية إلى صنع نسختها الخاصة من الخرسانة فائقة المناعة، التي أصبحت تُعرف باسم “خرسانة إيجلين” عالية القوة، لتجربتها في الاختبارات.

ولا تزال نتائج القوات الجوية الأمريكية سرية، لكن إحدى الدراسات الصينية مفتوحة المصدر قارنت بين الخرسانة العادية عالية القوة وبين الخرسانة فائقة المناعة المدعمة بالألياف. ونجحت المقذوفات في اختراق الأهداف الخرسانية العادية، لكن الأهداف المصنوعة من الخرسانة فائقة المناعة نجت بشقوقٍ بسيطة.

وكانت القوات الجوية تشعر بالقلق من أن قنابلها التي يبلغ وزنها 2,267 كيلوغراماً ليست كافية، حتى حصلت على قنبلة ذخائر الاختراق الهائلة MOP، وهي قنبلةٌ ضخمة يبلغ وزنها 13.6 طن. لكن عيب هذه القنبلة يكمن في حجمها الضخم، ولهذا سيتعين على القنابل الأقل وزناً أن تتطور أكثر لاصطياد الأهداف الأصغر حجماً.

لهذا قامت القوات الجوية الأمريكية بترقية قنبلة ذخائر الاختراق الهائلة بعد دراستها للخرسانة. ثم قامت بترقيتها مرةً أخرى. وانتهت من الترقية الرابعة بحلول عام 2018، فضلاً عن عدة ترقيات مشابهة للقنابل الأصغر.

هل تفوز الخرسانة فائقة المناعة في هذا السباق؟
لكن المشكلة تكمن في أن أكبر القنابل الموجودة والمصنوعة من أمتن المواد المتاحة قد لا تتمكن من اختراق التحصينات في المستقبل. حيث زعم الدكتور غريغوري فارتانوف، من شركة Advanced Materials Development Corp، أن الخرسانة فائقة الأداء وعالية الجودة تُعتبر أقوى بكثير من القنابل المصنوعة بأنواع الفولاذ الموجودة. وأوضح فارتانوف في ورقةٍ بحثية نشرتها مجلة Aerospace & Defense Technology في فبراير/شباط عام 2021: “لا تستطيع القنابل المخترقة ذات الهياكل المصنوعة من مواد مثل فولاذ إيجلين أن تخترق المخابئ المصنوعة من الخرسانة فائقة المناعة”.

ومع ذلك لن يتوقف الأمر عند هذا الحد. فربما كانت الخرسانة فائقة المناعة جيدة، لكن معامل التجارب تُجري اختباراتها حالياً على وسائل حمايةٍ أفضل.

وتتحدث الأبحاث الصينية الحديثة عن المركب الأسمنتي المتسلسل وظيفياً FGCC، الذي يُصنع باستخدام طبقات مختلفة من الخرسانة فائقة المناعة التي تتمتع كل منها بخواص مختلفة.

وأفاد بحثٌ صيني نُشِرَ في يونيو/حزيران بأن المركب الأسمنتي المتسلسل وظيفياً قاوم الاختراق والانفجارات بدرجةٍ تتفوق على الخرسانة فائقة المناعة. وقالت ستيفاني إنها عملت على مفهومٍ مشابه من قبل، موضحةً أن آلية استخدام طبقات من المواد ذات الخواص المختلفة يُمكن أن تكون أكثر فاعلية من استخدام مادةٍ واحدة بمفردها.

ويأتي البحث الأخير بعد أربع سنوات على الأقل من نشر دراسةٍ صينية عن الخرسانة ذات الطبقات، والتي ركّزت تحديداً على امتصاص الصدمات والانفجارات. لهذا من المتوقع أن يكون اختراق المخابئ الجديدة أمراً بالغ الصعوبة.

لكنَّ هناك طرقاً “أسرع وأذكى” لاختراق المخابئ
توجد بعض القيود التي تواجه عملية صنع قنابل أكبر وأقوى لاختراق التحصينات، لكن يظل بالإمكان اتباع مناهج أخرى. وربما لا يستمر سباق التسلح على المسار نفسه، إذ يمكن أن يسلك مساراً مختلفاً.

حيث قال جاستن برونك، من مؤسسة RUSI البحثية البريطانية: “تقدم الأسلحة فرط الصوتية خياراً محتملاً جديداً للهجوم على المخابئ المحصنة”. إذ تأتي هذه الأسلحة مجهزةً بقذيفة خارقة من التنجستن، لتتمكن من اختراق طبقات الأسمنت وكأنها رصاصة خارقة للدروع. ولا تحتاج هذه الأسلحة لرؤوس حربية متفجرة، لأنها تؤدي الضرر اللازم باستخدام الطاقة الحركية فقط.

وأشار برونك كذلك إلى أنك لن تحتاج لتدمير المخابئ فعلياً في كل مرة؛ بل يمكنك تدمير المداخل، وإسقاط الهوائيات، وقطع الاتصالات باستخدام ضربات موجهة في المواقع الصحيحة.

ومن المنطقي أن ترفض القوات الجوية الأمريكية الحديث عن قدراتها الحالية المرتبطة باختراق التحصينات، أو طريقة إعدادها لضرب أهدافها المحتملة في إيران أو الصين أو غيرها، فضلاً عن أن غالبية أبحاث الجيش على الخرسانة عالية القوة تظل سريةً على نحوٍ مشابه.

ويعتمد الجيش الأمريكي بشكلٍ كبير على قوته الجوية من أجل إبقاء الأهداف تحت تهديد الخطر. وربما يحاول الخصوم إخفاء مقرات القيادة أو المنشآت النووية تحت الأرض، لكن القنابل مخترقة التحصينات لن تمنحهم ملاذاً آمناً. ومع ذلك، قد تؤدي التطورات التدريجية في مجال تقنية الخرسانة إلى تداعيات استراتيجية بعيدة المدى إذا تمكنت من إضعاف هذه الأفضلية الجوية.

* المصدر : عربي بوست
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع