السياسية:

“سباق التسلح النووي” مصطلح ارتبط بالحرب الباردة وانتهى بنهايتها، لكن الحرب الروسية في أوكرانيا أعادت إحياءه، وسط توقعات بزيادة الترسانة النووية وارتفاع احتمالات استخدام أسلحة نهاية العالم بصورة مرعبة، فماذا حدث؟

كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي بدأ يوم 24 فبراير/شباط الماضي وتصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة بينما يصفه الغرب بأنه غزو، قد شهد ارتفاع خطر حدوث مواجهة نووية إلى أعلى مستوياته منذ أزمة الصواريخ الكوبية، التي شهدها العالم قبل أكثر من نصف قرن.

كان الاتحاد السوفييتي السابق يشيد قواعد وصوامع للصواريخ النووية في كوبا وأرسلت الولايات المتحدة أساطيلها إلى السواحل الكوبية لاعتراض السفن والأساطيل الروسية التي تحمل المعدات والرؤوس النووية، وعاش العالم على أطراف أصابعه لعدة أسابيع، بلغت ذروتها في أكتوبر/تشرين الأول عام 1962، قبل أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق لتفادي الصدام النووي.

ماذا جاء في تقرير معهد ستوكهولم؟
بعد نحو ستة عقود كاملة من أزمة الصواريخ الكوبية، يعيش العالم أزمة أخطر تتمثل في الأزمة الأوكرانية، التي تحولت بالفعل إلى حرب هي الأكبر في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، أعادت وبقوة خطر الأسلحة النووية ومعها عاد “سباق التسلح النووي” لواجهة الأحداث مرة.

معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، وهو مؤسسة بحثية بارزة في مجال الصراع والتسليح، قال الإثنين 13 يونيو/حزيران إنه من المتوقع أن تنمو الترسانة النووية العالمية في السنوات المقبلة لأول مرة منذ الحرب الباردة، مضيفاً في سلسلة بحثية جديدة أن الهجوم الروسي على أوكرانيا والدعم الغربي لكييف أديا إلى تصعيد التوترات بين الدول التسع المسلحة نووياً في العالم، بحسب رويترز.

وعلى الرغم من انخفاض عدد الأسلحة النووية بشكل طفيف بين يناير/كانون الثاني 2021 ويناير/كانون الثاني 2022، قال معهد ستوكهولم إنه إذا لم تتخذ القوى النووية إجراء فورياً، فقد تبدأ المخزونات العالمية النووية في الارتفاع قريباً لأول مرة منذ عشرات السنين.

ولفريد وان مدير برنامج أسلحة الدمار الشامل التابع بمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، في الكتاب السنوي للمعهد للعام الجاري، قال إن “جميع الدول المسلحة نووياً تعمل على زيادة أو تطوير ترساناتها ومعظمها يزيد من حدة لهجته النووية والدور الذي تلعبه الأسلحة النووية في استراتيجياتها العسكرية”.

وقال معهد ستوكهولم إن العدد العالمي للرؤوس الحربية النووية تراجع إلى 12705 في يناير/كانون الثاني الماضي من 13080 في يناير/كانون الثاني 2021، وتم نشر ما يقدر بنحو 3732 رأساً حربياً وتم الاحتفاظ بوضع نحو ألفي رأس، كلها تقريباً مملوكة لروسيا أو الولايات المتحدة، في حالة تأهب قصوى.

والنادي النووي- أي الدول التي تمتلك أسلحة نووية- يضم 9 أعضاء، على رأسها روسيا والولايات المتحدة، وتمتلكان معاً نحو 90% من الترسانة النووية العالمية، تليهما الصين وفرنسا وبريطانيا، ثم باكستان والهند وإسرائيل وكوريا الشمالية.

وبينما تعترف الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (روسيا والولايات المتحدة والصين وفرنسا وبريطانيا) بترسانتها النووية، تظل الهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل ضمن دائرة عدم الاعتراف الرسمي، رغم أن امتلاك سلاح نووي هو أمر يستحيل إخفاؤه بطبيعة الحال.

لكن على الرغم من أنه من المستحيل أن تُخفي دولة ما امتلاكها أسلحة نووية، لكن العدد الدقيق لما تمتلكه كل دولة من تلك الأسلحة القاتلة، التي قد يتسبب تفجيرٌ واحد منها في إفناء مدينة بأكملها، يُعتبر عملية صعبة للغاية، إن لم تكن مستحيلة أيضاً.

فحتى الأرقام التي تُصدرها الخارجية الأمريكية لا تكون شاملة لجميع أنواع الأسلحة النووية أو حالتها، مفعلة أو غير مفعلة، موجودة كاحتياطي استراتيجي في المخازن أم منصوبة داخل قواعد عسكرية، محمولة جواً على صواريخ باليستية أو طائرات أو موجودة على غواصات، وما إلى ذلك من طرق نشر الأسلحة المختلفة، كما يشكك كثير من الخبراء العسكريين الغربيين في مدى دقة الأرقام التي تُصدرها روسيا أو الصين، على سبيل المثال.

وإذا كان الوضع بهذا الغموض فيما يتعلق بالدول التي تعترف بأنها نووية، فما بالنا بالأربع (باكستان والهند وكوريا الشمالية وإسرائيل)، التي تعتمد سياسة الغموض، وترفض من الأساس وجود مراقبين من الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمتابعة منشآتها النووية أو ترسانتها النووية.

عودة الحرب الباردة وتأثيرها على التسلح النووي
ستيفان لوفين رئيس مجلس إدارة معهد ستوكهولم الدولي ورئيس وزراء السويد السابق قال لرويترز إن “العلاقات بين القوى العظمى في العالم تدهورت أكثر في وقت تواجه فيه البشرية والكوكب مجموعة من التحديات المشتركة العميقة والملحة التي لا يمكن التصدي لها إلا من خلال التعاون الدولي”.

إذ إنه بعد عقود من جهود نزع الأسلحة النووية في أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية، عادت جميع القوى النووية اليوم لتنفق الكثير من الأموال على الرؤوس الحربية النووية الجديدة والمنظومات الحاملة لها مثل الصواريخ أو السفن أو الغواصات أو الطائرات. وقال هانس كريستنسن، الخبير في معهد ستوكهولم: “إنهم جميعاً مشغولون جداً في تحديث ترساناتهم. الدول تعطي من جديد قيمة للأسلحة النووية”.

وأضاف كريستنسن لموقع دويتش فيله الألماني أن هناك دولة واحدة على وجه الخصوص تبرز في هذا المضمار: “لا أحد يزيد في عدد أسلحته النووية مثل الصين. نحن لا نعرف لماذا؛ لأنها ببساطة لا تريد الحديث عن ذلك. وهي لا تعلق على بناء الصوامع (منصات إطلاق الصواريخ)، التي تكون على الأرجح مخصصة لإطلاق الصواريخ الباليستية”. في العامين الماضيين، حدد كريستنسن حوالي 300 صومعة مبنية حديثاً في الصحاري الصينية على صور الأقمار الصناعية.

“ربما تخشى الصين ألا تنجو ترسانتها الحالية من ضربة نووية من جانب الولايات المتحدة. وربما ذلك رد فعل على حقيقة أن أنظمة الدفاع الصاروخي ستكون أكثر تطوراً في المستقبل وأن الصين تريد أن تكون قادرة على هزيمة مثل هذه الأنظمة بمزيد من الرؤوس الحربية، بحسب الخبير بمعهد ستوكهولم، مضيفاً أنه على أي حال، هناك شيء واحد مؤكد: الرئيس شي جين بينغ يريد جيشاً من الطراز العالمي مجهزاً بأحدث الأسلحة النووية”.

وفي الوقت نفسه تنفق الولايات المتحدة حوالي 10 مليارات دولار أمريكي سنوياً لتحديث قنابلها الذرية، كما أن ألمانيا تستثمر مليارات اليوروهات في موديل محدد من الطائرة الشبحية الأمريكية إف-35 مناسب لحمل الأسلحة النووية.

وحالياً تلتزم روسيا وأمريكا ببنود اتفاقية “نيو ستارت”، التي تضع قيوداً على الحد الأقصى من الرؤوس النووية لدى كل منهما، لكن هذه الاتفاقية ستنتهي عام 2026، وفي ظل تداعيات الحرب في أوكرانيا على العلاقات بين البلدين، يعتقد كثير من خبراء الأسلحة النووية أنه لن يتم تجديد اتفاقية “نيو ستارت”.

لعنة التطور العلمي والتكنولوجي
لكن ربما يكون التطور التكنولوجي الرهيب الذي تشهده البشرية سبباً في التقليل من الرعب المصاحب لاستخدام الأسلحة النووية، ومن ثم يرفع بدرجة مخيفة من احتمالات استخدامها، وليس فقط الاحتفاظ بها كرادع، وهو المبرر الذي يسوقه منتجو تلك الأسلحة البشعة طوال الوقت لتبرير الاحتفاظ بها، على الرغم من أهوالها التي ألصقت توصيف “أسلحة نهاية العالم” بها.

إذ إن المرة الوحيدة التي تم فيها بالفعل تفجير سلاح نووي كانت من جانب الأمريكيين ضد مدينتي هيروشيما ونغازاكي عام 1945 وتسبب ذلك في قتل عشرات الآلاف من اليابانيين بشكل مباشر وتدمير شبه كامل للمدينتين، مما أجبر اليابان على الاستسلام وانتهاء الحرب العالمية الثانية.

لكن تلك القنابل كانت قنابل ذرية، بينما شهدت الأسلحة النووية تطوراً ضخماً على مدار العقود الماضية، ونظراً للدمار الشامل الذي تحدثه فقد أصبحت فكرة الحرب النووية تشبه الذكرى البعيدة لزمن عانت فيه البشرية من الحرب الباردة بين حلفي وارسو بزعامة السوفييت والناتو بزعامة الأمريكيين.

ما هي الأسلحة النووية التكتيكية وكيف يمكن استخدامها؟

لكن الآن ومع عودة سباق التسلح النووي للواجهة مرة أخرى، هناك عامل أكثر خطورة وهو التطور الهائل في تلك الأسلحة، وإنتاج ما يسمى السلاح النووي التكتيكي أي الرأس النووي الصغير، الذي يمكن استخدامه بالفعل.

فعلى سبيل المثال واعتباراً من عام 2023، سيتم استبدال القنابل النووية الأمريكية القديمة في قاعدة بوشل الألمانية بنموذج جديد من الرؤوس النووية لا يمكن توجيهه نحو هدف صغير ومحدد فحسب ولكن أيضاً يمكن التحكم في قدرة السلاح التفجيرية، وهو ما يعني خفض سقف الممانعة لاستخدام سلاح نووي كسلاح هجومي تكتيكي، بحسب المنتقدين للأسلحة النووية.

فلاديمير سولوفيوف، مقدم البرامج التليفزيونية والناطق بلسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قال قبل أيام قليلة خلال برنامجه: “إذا سارت الأمور كما عليه الحال حتى الآن، فلن ينجو سوى عدد قليل من المتحولين في بحيرة بايكال (بحيرة كبرى في سيبريا). بقية العالم سوف يموت في ضربة نووية ضخمة”، بحسب تقرير موقع دويتش فيله.

وفي دولة كألمانيا، تسببت حرب أوكرانيا في تحول واضح في الرأي العام بشأن الأسلحة النووية، إذ أظهر استطلاع رأي للقناة الأولى في التلفزيون الألماني أن 52% من الألمان يؤيدون بقاء القنابل النووية الأمريكية في ألمانيا، بينما كانت النسبة في استطلاع رأي مماثل العام الماضي فقط لا تزيد عن 14%.

الخلاصة هنا أن أحد تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا يتمثل ليس فقط في عودة سباق التسلح النووي، الذي ربما لم يسمع عنه كثير من البشر المولودين بعد انتهاء الحرب الباردة إلا من خلال الأفلام الوثائقية، لكن أيضاً في ارتفاع مخيف في احتمالات الاستخدام الفعلي لتلك الأسلحة، والسبب التطور العلمي الذي حولها من رادع إلى سلاح هجومي تكتيكي.

المصدر: عربي بوست