الشيلات جذوة مشتعلة على حساب الأغنية اليمنية
جمال شنيتر
يراها البعض فناً هابطاً دخيلاً لكنها تتميز بالبساطة… والجمود الموسيقي سبب انتشارها لطالما اشتهر الفن الغنائي في اليمن وذاع صيته متجاوزاً الحدود، متكئاً على تراث وتاريخ يعود إلى مئات السنين، متميزاً بتنوع ألوانه الغنائية، ما أكسب الشعراء قدرة فائقة على التأقلم مع هذه الألوان المتعددة، التي يتصدرها الصنعاني والحضرمي واللحجي واليافعي والعدني والتهامي.
وشكلت فترة الخمسينيات من القرن الماضي ذروة ازدهار وانتشار الأغنية اليمنية محلياً وعربياً، وقدمت اليمن كوكبة من أشهر الفنانين الغنائيين، أبرزهم أبو بكر سالم، ومحمد مرشد ناجي، ومحمد سعد عبدالله، وأيوب طارش، وحمود الحارثي، ومحمد جمعة خان، وأحمد قاسم، وفيصل علوي، والزيدي.
ومع مطلع الألفية الثالثة بدأت المحاولات الأولى للشيلات الغنائية كلون فني جديد على الساحة اليمنية، ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى انتشرت تدريجاً في عدد من المحافظات، لكن هناك شبه إجماع في الوسط الفني أن هذه الشيلات ازدهرت مع بداية الحرب اليمنية في 2015، بعد تراجع الاهتمام الحكومي بالفن الغنائي التقليدي.
إيقاع الحياة
في مدينة المكلا في حضرموت يحلو لكرامة علي، سائق سيارة أجرة، أن يستمع أثناء عمله اليومي في نقل الركاب إلى شيلات غنائية لكبار فناني الشيلات، عبد الفتاح الفقيه، وأبو حنضلة، ومراد النهمي، وقحطان اليافعي، والوزيري وغيرهم.
يقول كرامة، “أصبحت مدمناً على سماع الشيلات، تعجبني لأنها حماسية، وفيها نوع من التراث، وكلماتها بسيطة مفهومة، لهذا نحن الشباب مداومون على سماعها”.
ويضيف، “الإقبال على الأغنية والطرب اليمني تراجع عند الشباب، ولم يعد بذلك الاهتمام والمتابعة التي كانت في زمن سابق، فالشيلات تتماشى مع إيقاع الحياة السريع الذي نعيشه اليوم”.
أقرب إلى الطرب الشعبي
“نظرة من الزين” و”حمامه الوادي” و”خذني معك يا طير”، شيلات غنائية لفنان الشيلات اليمني الشاب مراد النهمي، الذي يعد أحد فناني الشيلات الذين برزوا في السنوات القليلة الماضية.
من محافظة ذمار في وسط اليمن بدأت ميوله الفنية في الإنشاد والغناء، فالتحق بفرقة الهديل الفنية كمنشد أناشيد مبتدئ، ثم التحق بملتقى الفنانين والأدباء، متدرجاً في هذا الكيان حتى وصل مديراً لإدارة الإنتاج الفني.
يوضح النهمي، “سنوات قليلة قضيتها بين الإنشاد والغناء، ثم انتقلت إلى أداء الشيلات، وشاركت في حفلات ومهرجانات، وسجلت عدداً من الشيلات التي حظيت بالانتشار وإعجاب المتابعين في اليمن وبعض دول الخليج”.
ويعزو انتشار الشيلات في السنوات القليلة الماضية إلى “كونها لوناً بسيطاً يلامس احتياجات الشباب النفسية ووجدانهم العاطفي والفرائحي، تسليهم وترقصهم، وتلبي ما يحتاجه المستمع، فهي أقرب إلى الطرب الشعبي، بخاصة في المناطق الجبلية والصحراوية بدرجة أولى، كلون يمني قديم مستمد من التراث، لكن بطريقة حديثة ومطورة”.
بين الشيلة والأغنية
يسهب النهمي في الحديث عن الشيلة والأغنية وما بينهما، “لكل لون جمهور من المعجبين، وتبقى الأغنية هي المتصدر ومعيار الفن والفنان المتمكن، وخلال هذه الفترة مع أوضاع الحرب في اليمن كان الطلب والاستماع إلى الزامل والشيلة أكثر، لأن الشيلة لون يتميز بالبساطة والتلقائية في الأداء والتنفيذ، ممكن تنفذها بإيقاع وتوزيع بسيط، ولا تحتاج إلى توزيع موسيقي، وإن وجد توزيع يكون بآلات خفيفة، والأداء يكون على نسق واحد، لذلك تتميز الشيلة بالبساطة، على العكس من الأغنية التي تمر بمراحل كثيرة أثناء إنتاجها وتنفيذها، من الكلمات والتلحين والتوزيع الموسيقي، حسب اللحن والمقام والطبقة المحددة، ثم الكورال وعملية الإنتاج الفني، وهي مكلفة مادياً أكثر من الشيلة”.
وفقاً للفنان ذاته “تتنوع الشيلات، مثل أي لون غنائي، حسب المناسبة والحدث والموضوع وتوجه الكلمات، فهناك لون فرائحي، وعتاب، وترحيب، وحزين (الذي هو الرثاء)، وكما لا ننسى اللون السياسي والوطني، وهكذا الشيلات مثل الأغاني والزوامل الشعبية تتنوع بين المحافظات”.
رسالة الفن
يرى النهمي، “أن الفنان هو الذي يمتلك هدفاً ورسالة سامية، فالشيلة مثل الأغنية والأنشودة، يمتلك الفنان رسالة التعبير عن الإنسان بالفرح والحزن والحب والسلام والوطن والأرض، وليس بفن ولا فنان من يبتعد عن هذه المبادئ والقيم النبيلة، لذلك لكل فن موضوع يحقق منه هدفاً، ويصل به إلى جمهور معين ومعجبين. هناك من تفرّحه بالشيلة أو الأغنية، وهناك فن تسلي به على مكروب وحزين، وفن تحقق به أهدافاً وطنية، وتصل إلى شريحة كبيرة في الوعي الوطني والثقافة الوطنية، وكم من أمثلة عن فنانين غنوا لأوطانهم، فخلدهم التاريخ وذكرتهم الأجيال، لما قدموه من فن هادف يلامس حب الأوطان والأرض والذود عنها والحفاظ عليها”.
آثار الحرب
يؤكد وكيل وزارة الثقافة اليمنية الفنان نجيب سعيد ثابت أن الأغنية اليمنية هي أحد الشواهق العظيمة والشامخة في تاريخ حضارة وثقافة اليمن، متأسفاً من أن تداعيات وآثار الحرب اليمنية على مدى أكثر من ست سنوات، أثرت بشكل أو بآخر على الأغنية بمفهومها الفني المعروف.
ويتابع، “التراجع في نشاط الموسيقى الغنائية في اليمن سببه تداعيات وآثار الحرب، التي ساعدت على دخول الشيلات على الخط، فالحرب أثرت في ديمومة الفن الغنائي اليمني، فقد توقفت الفرق الفنية والموسيقية الوطنية عن العمل، نتيجة شح الإمكانات، ما أدى إلى شبه جمود في الحراك الفني والموسيقي، وكل ذلك وفر أجواءً لبروز ما يسمى بالشيلات”.
فن هابط
ويوجه الوكيل ثابت، وهو فنان غنائي بارز، انتقاداً لاذعاً للشيلات الغنائية، واصفاً إياها بـ”فن هابط دخيل على الشعب اليمني”.
ويمضي شارحاً ذلك بالقول “من المستحيل أن تكون هذه الشيلات فناً بديلاً، اليمن لا يحتاج إلى فن بديل، هذه مرحلة وستنتهي وستدفن هذه الشيلات كفن هابط لا يمكن أن يستمر أو يصمد في الساحة الفنية، وللأسف هناك من يعتقدون أن الشيلات يمكن أن تضاف إلى الألوان الفنية الغنائية، وهذا خطأ فادح، فالأغنية في عالم والشيلات في عالم آخر، لذلك لا محالة في نهاية مرتقبة للشيلات من الساحة الفنية اليمنية، فالبيئة اليمنية لا تتقبل مثل هذا النوع الدخيل على الفن، وما حدث من انتشار لها، هو أنها لا تحتاج إلى كثير من المال، قليل من المال يمكن ينتج شيلة بكل تكاليفها من إعداد وصناعة العمل الموسيقي وتسويقه في المحال الشعبية، كما أن إنتاج الشيلة وطرحها في الأسواق لا يتطلب أكثر من عشرة أيام”.
تراث فني
ينوه وكيل وزارة الثقافة بأن اليمن لديه من التراث الفني الكثير، مما ظل راسخاً في الذاكرة الشعبية، كالزوامل الشعبية التي تعد تراثاً وفناً عظيماً يتداوله اليمنيون، فعندما تسمع الزامل بالصوت الشعبي البسيط بالغناء التلقائي، دون حتى إدخال عليه الآلات الموسيقية، تجده غناء شامخاً وجذاباً ومعبراً، لأنه يُغنى دون تكلف، وتحس فيه قوة اليمن بحضارتها العظيمة وتراثها الإنساني وعمق التمسك بالأرض والزرع والوطن. أداء تلقائي حقيقي يخلو من التكلف والتصنع، وليس صحيحاً أن هذه الشيلات تنبع وتستند إلى هذا التراث”.
رياح عابرة
يخلص وكيل وزارة الثقافة إلى القول “إن الشيلات أشبه برياح عابرة استفادت من ظروف استثنائية، والدليل على قرب نهايتها، أنها بدأت تخف وتتراجع محلياً، لكن الأكيد أن كل شيء يتضرر، إلا الغناء اليمني باعتباره الفن الراقي صاحب التاريخ المجيد، فالأغنية اليمنية حصدت مكانة كبيرة ومتميزة، جعلتها في مصاف الفن العربي الأصيل، وتمتلك كثيراً من مقومات وشروط البقاء والانتشار، وعلى الرغم من الظروف الطارئة، فإن الأغنية اليمنية غزت العالم ووصلت إلى آفاق بعيدة”.