السياسية:

مثَّل موقع مصر المتميز بين القارات القديمة الثلاث (آسيا، وإفريقيا، وأوروبا) أهمية كبيرة للقاهرة منذ تدفق التجارة العالمية التي باتت تعبر قناة السويس بشكل إجباري، مما قدم لمصر الكثير من الفوائد، بما فيها الاقتصادية والسياسية أيضاً.

في العقدين الأخيرين برزت أهمية جديدة للموقع الجيوسياسي لمصر، من خلال تدفق كابلات الألياف الضوئية التي تنقل شبكة الإنترنت عبر البحر الأحمر والبحر المتوسط، بسبب محدودية نقاط العبور الاستراتيجي التاريخية في البحر المتوسط، وهي: مضيق جبل طارق، ومضيق البوسفور، وقناة السويس، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.

لكن هذا الأمر قد يتغير في حال تم تنفيذ مشروع عملاق التكنولوجيا الأمريكي جوجل الذي تسعى لربط كابلات الإنترنت مع إيطاليا، مما يمنع القاهرة من الاستفادة من ممرها الهام قناة السويس، وتخفيض العوائد التي يجلبها الممر البحري لهذه الكابلات.

عملاق الاتصالات المصرية بوابة كل شيء

تتمتّع مصر بموقع محوري في مد كابلات الألياف الضوئية، يربط بين أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، حيث إنَّ ما يصل إلى 30% من الاتصال بشبكة الإنترنت لسكان العالم يمر عبرها.

ويقول آلان مولدين، مدير الأبحاث في شركة أبحاث الاتصالات TeleGeography في واشنطن العاصمة: “إذا كنت ترغب في مد الكابلات بين أوروبا والشرق الأوسط إلى الهند، فأين أسهل طريق للذهاب؟ هذا الطريق عبر مصر حيث توجد أقل مساحة من الأرض يمكن عبورها”.

ونجحت مصر، من خلال الشركة الحكومية المُحتَكِرة لسوق الاتصالات “الشركة المصرية للاتصالات”، في استغلال موقعها وجذب مشغلي الكابلات لمد خطوطهم عبر الدولة.  

وصرَّح هيو مايلز، محرر مجلة Arab Digest في القاهرة، لموقع Middle East Eye: “إنها واحدة من الأوراق الرابحة في مصر، مثل الأهرامات، التي لا تنتهي موضتها أبداً. لقد اعتادوا صنع الأموال من العبور والسياحة، لكنهم الآن يفعلون ذلك بالبيانات: إنها قناة السويس الرقمية، والتي تعظم الاستفادة من موقعها الجغرافي السياسي”.

نيكاراغوا تشق قناة بين “المحيطين” يطال تأثيرها “السويس”

ووفقاً للشركة المصرية للاتصالات، فهناك 10 محطات أرضية للكابلات على سواحل مصر على البحر المتوسط ​​والبحر الأحمر، وحوالي 15 طريقاً برياً عبر البلاد، 10 منها تديرها شركة الاتصالات المصرية العملاقة، تغطي منطقة تمتد من البحر الأبيض المتوسط ​​حتى سنغافورة.

وأدت مركزية مصر في مجال الاتصال العالمي -إذ تُقدَّر الشركة المصرية للاتصالات أنَّ 17% من حركة تدفق الإنترنت تمر عبر مصر بينما يشير بعض المحللين إلى أنها قد تصل إلى 30%، وتربط ما بين 1.3 مليار و2.3 مليار شخص- إلى اعتبارها نقطة اختناق.

وتقول جاي زيبي، مؤسسة شركة أبحاث السوق Xalam Analytics في جنوب إفريقيا: “داخلياً نسميها عنق الزجاجة في البحر الأحمر، إذ لديها أكثر من عشرة كابلات تربط آسيا بأوروبا وإفريقيا بأوروبا. إنها بالأساس ضريبة يجب على المرء دفعها للمرور عبر منطقة السويس المزدحمة بسبب ممرات الشحن والتكنولوجيا”.

وأثار الاحتكار غضب صناعة الكابلات وشركات الإنترنت العالمية، مع تقارير تفيد بأنَّ مصر تتقاضى 50% أعلى مقارنة بطرق عبور الكابلات الأخرى.

ويقول آلان مولدين، من شركة أبحاث الاتصالات TeleGeography، “هناك رسوم يفرضونها مقابل السعة، التي خُفِضَت قبل بضع سنوات. وهناك ضغط مستمر للمزيد من خفض الرسوم”.

ويوضح مولدين أنه من مصلحة مصر عدم حدوث اضطرابات في حركة الإنترنت العالمية، لكن ما تريده الصناعة هو المزيد من التنوع. وأضاف: “أنت مجبر على المرور عبر مصر، وهذا جزئياً سبب الحاجة إلى إنشاء مسارات بديلة ومُنافِسة. أفضل طريقة لتحسين الاتصال الدولي هي ببساطة بناء المزيد من مسارات الكابلات”.

هل هناك منافس؟

شهدت مصر موجة من الكابلات الجديدة في السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك تركيب شبكة باسم “باكستان شرق إفريقيا كيبل إكسبريس”، والكابل البحري “2 إفريقيا”، وشبكة كيب تاون إلى القاهرة.

لكن يقال إنَّ جوجل تخطط حالياً لإنشاء طريق جديد بين الهند وإيطاليا يهدد بتقويض القبضة الخانقة لمصر. ومع ذلك لا يزال مشروع الطريق غير مؤكد.

ووفقاً للتقارير ستتألف شبكة “بلو-رامان”، التي تبلغ تكلفتها 400 مليون دولار، من كابلين مرتبطين. سيمتد كابل “بلو” من جنوة في إيطاليا إلى إسرائيل، ثم يمر عبر منطقة السويس عبر كابل أرضي إلى ميناء العقبة الأردني. وسيمتد كابل “رامان” من العقبة عبر المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ثم المحيط الهندي إلى مومباي.

منطقة”نيوم”في المملكة السعودية

وتقول جاي زيبي، مؤسسة شركة أبحاث السوق Xalam Analytics في جنوب إفريقيا: “تتطلع كل من جوجل وفيسبوك ومطورو التكنولوجيا إلى مزيد من التحكم في حركة مرور الإنترنت الخاصة بهم بدلاً من شراء السعة في الكابلات الموجودة. ليس هناك ما هو أرخص من امتلاك قدراتك الخاصة”.

وإذا أنشئ خط “بلو-رامان”، فسيكون عامل تغيير جيوسياسي لشبكات الكابلات في المنطقة. إذ لا تمتلك إسرائيل حالياً أي ربط بالشرق الأوسط وتعتمد على الكابلات الممتدة من أوروبا إلى تل أبيب وحيفا.

وتشير جاي زيبي: “لا يتعلق الأمر بنزع بعض حركة تدفق الإنترنت من مصر، بل التنويع بعيداً عن الشركة المصرية للاتصالات دون التخلص منها”.

ومع ذلك، لم تُصدِر شركة جوجل بعد أي تعليق رسمي على شبكة “بلو-رامان” وأخبرت موقع Middle East Eye: “نحن لا نعلق على تكهنات السوق”.

وقد يرجع هذا جزئياً إلى عدم تحول التوقعات بتوقيع اتفاق تطبيع بين السعودية وإسرائيل في أعقاب “اتفاقيات إبراهيم”، التي وُقِّعَت قبل أشهر قليلة من احتلال أنباء شبكة “بلو-رامان” عناوين الصحف، إلى واقع حتى الآن.

من جانبه، يقول هيو مايلز، محرر مجلة Arab Digest في القاهرة: “يعتمد مصير بلو-رامان بالكامل على السياسة الإقليمية. بالطبع إنها فكرة رائعة ولها معنى تجاري مثالي وهذا هو سبب رغبة جوجل في تنفيذها، لكنها تتجاهل مسألة بسيطة في سياسة الشرق الأوسط؛ وهي أنَّ المشاريع لا تسير في كثير من الأحيان كما هو مخطط لها بسبب الحروب والعداوات والمشكلات الإقليمية الأخرى”.

تطبيع الكابلات

يوضح مايلز: “بلو-رامان يلائم الصورة الأكبر للوحدة في المنطقة. ومن المفترض أن تأتي مدينة نيوم في قلب هذا المشروع، حيث تتحد أربع دول (السعودية ومصر والأردن وإسرائيل) وتعمل معاً. كن على يقين من أنَّ السعوديين يريدون أن يكونوا متصلين بهذه الشبكة الكبيرة”.

وتعد خطة جوجل لإنشاء منطقة سحابة إلكترونية جديدة في السعودية، التي سعت إليها المملكة نفسها ضمن خطط التنويع الخاصة بها لتحويل اقتصادها إلى اقتصاد رقمي، دافعاً محفزاً أيضاً.

وفي هذا السياق، أشارت جاي زيبي: “مركز بيانات نيوم سيتصل بشبكة بلو-رامان؛ وهذا هو على الأرجح أحد الجوانب التي بررت الاستثمار”. 

خطة جوجل الجديدة

وبينما التزمت جوجل الصمت عن شبكة “بلو-رامان”، وقَّعت الشركة في يناير/كانون الثاني اتفاقية مع الشركة المصرية للاتصالات من أجل زيادة سعة كابلاتها في مصر.

وعلَّقت سارة سمير سياك، محللة الاقتصاد السياسي المستقلة في القاهرة، قائلة: “هذه الصفقة ليست بالضرورة بديلاً عن كابل بلو-رامان؛ لأنَّ الخطة الجديدة ليست حلاً لمشكلة نقطة الاختناق”.

وبموجب الاتفاقية الجديدة، حصلت جوجل على سعات عبر كابل TE North الذي يمتد من جنوب فرنسا إلى البحر الأحمر.

وأضافت سارة سمير سياك: “هذا هو المسار العام نفسه الذي تسلكه معظم الكابلات؛ لذا فهو لا يحل مشكلة الاعتماد المفرط على مصر وشبه الاحتكار في الدولة”.

يُذكر أن الشركة المصرية للاتصالات جمعت 10% من أرباحها من الكابلات في عام 2019، ويبدو أنها ستظل منافساً حتى لو بدأت شركة “بلو-رامان” عملها.

عربي بوست