مناهضة التجارب النووية ما بين الواقع والطموح
السياسية:
إعداد : مركز البحوث والمعلومات
شكلت نهاية الحرب العالمية الثانية البداية الفعلية في دخول العالم مرحلة جديدة من الصراع الدولي ما بين حلفاء الأمس، وتشكلت أطراف الصراع من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من المعسكر الغربي من جهة والاتحاد السوفيتي وحلفائه من المعسكر الشرقي من الجهة الأخرى، وكان من الواضح أن الحرب في كثير من أبعادها سوف تنحو منحى تنافسي في الكثير من المجالات، وكانت المساعي باتجاه تطوير الأسلحة الفتاكة هو أحد معايير التطور العلمي والعسكرية مع تدشين الحرب الباردة.
وخلال سنوات قليلة، تمكن كلا المعسكرين من الحصول على السلاح النووي بعد تطويره من خلال اجراء العشرات من التجارب النووية، وأظهرت الأحداث في تلك المرحلة أنه مع تدشين الحرب الباردة وما رفقها من سباق على الحصول على السلاح النووي لم يلتزم الطرفان في كثير من الاحيان بالاجراءات الواجب الالتزام بها خلال تلك التجارب وما لها من انعكاسات خطيرة على المجتمع البشري والبيئة عموماً.
ومع تصاعد التنافس النووي وما يمثله من اخطار، أدرك القائمين على المنظمة الدولية الأم والمتمثلة في “الأمم المتحدة” ضرورة الحد من ذلك التنافس المدمر، من خلال اجراء تفاهمات مع الدول الاعضاء للخروج برؤية موحدة تكون ملزمة قانونياً للوصول إلى منع التجارب النووية، وهذا ما كان من خلال حظر التجارب النووية على عدة مراحل، وشكل ذلك النجاح حافزاً للمضي في تفعيل مزيد من الفعاليات الدولية الداعمة للحظر، وتوافقت الدول الاعضاء في هذا الاطار على تخصيص يوماً للاحتفال بهذه المناسبة، وكان القرار بالفعل بتخصيص يوم الـ 29 من اغسطس من كل عام واعتباره يوماً عالمياً لمناهضة التجارب النووية، وسعى القائمين على هذه المناسبة إلى تسليط الضوء على ضرورة حظر تجارب الأسلحة النووية على اعتبارها خطوة مهمة باتجاه عالم أكثر أمناً.
إضافة إلى توفير أكبر حشد من المنظمات الدولية والدول حول العالم والمنظمات الإقليمية والغير حكومية والجماعات والجهات الاكاديمية ووسائل الاعلام المختلفة وبما فيها وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف التعريف والتثقيف بأهمية حظر التجارب النووية من ناحية والضغط والمراقبة للحيلولة دون أجراء تجارب نووية مستقبلاً، ولا يخفى على أحد ان المآسي التي خلفتها التجارب النووية على المستوى البشري والبيئي تعد أسباب مقنعة إلى حدا كبير في ضرورة الامتناع على التفكير في أي تجارب مستقبلية بهدف تطوير السلاح النووي.
وكما ذكرنا سابقاً، أن الحرب الباردة في منتصف القرن الـ20 كانت بمثابة الشرارة في تصاعد التجارب النووية والتي كان ينظر إليها على اعتبارها ضرورة لتحديد فعالية وقدرة السلاح ونتيجة التفجير، ولكون التجارب تعطي معلومات حول كيفية عمل الأسلحة النووية، بالإضافة إلى الكيفية التي تتفاعل فيها الأسلحة تحت مختلف الظروف، ومعرفة ما يحدث للهياكل الفولاذية عندما تتعرض للانفجار، وتستخدم التجارب كمؤشر يسبق إعلان الدول عن امتلاكها السلاح النووي.
ويرى العديد من الباحثين في العلاقات الدولية، أن ظهور السلاح النووي ومن قبله التجارب النووية كان له بالغ الإثر على النظام الدولي، من خلال تحول الاهتمام بالاسلحة التقليدية إلى التركيز على ضرورة الحصول على السلاح النووي، ومع حصول امريكا ومن ثم الاتحاد السوفيتي على تلك الأسلحة ظهرت القطبية الثنائية بصورة جلية على مستوى النظام العالمي وما صاحبها من تحالفات غربية وشرقية، وبالتالي أصبح هناك توازن بين القوى العظمى وتحول السلاح في ضوء هذا التوازن إلى عنصر ردع أكثر منه سلاح يمكن استخدامه في الصراعات العسكرية المحتملة.
ويمكن القول أن اجراء التجارب النووية خلال السنوات الأخيرة انخفض وتراجع بصورة كبير مقارنة بما كان عليه الوضع سابقاً، لا سيما وأن السلاح النووي أصبح أكثر انتشار وتمتلكه مجموعة من الدول، وفي المقدمة الولايات المتحدة الأمريكية ومن ثم روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني والهند وباكستان، وأخيرا كوريا الشمالية، وهناك من يفسر ذلك التراجع بقوله: أن دور السلاح النووي حالياً بالرغم من أهميته الكبيرة في “الاستقلالية الدفاعية”، إلا أنه لا أهمية له من الناحية الهجومية، وذلك بسبب انتشار السلاح النووي لدى دول عديدة وامتلاكها القدرة على الضربة الثانية، وبالتالي فإن الخطر الحقيقي ليس في توتر العلاقات بين الدول النووية، إنما يكمن الخطر الحقيقي في وصول السلاح النووي لدى الجماعات الإرهابية التي ترى في المجتمع ككل عدوا يجب التخلص منه.
وشكلت التجارب النووية ومازالت الكثير من التهديدات المباشرة، ولكن الكوارث النووية الناتجة عن تسرب اشعاعي أو ما شابه من منشآت “مدنية وعسكرية” اعتبرت الأكثر ضرراً على البشر والبيئة وفي مقدمة تلك الحوادث :
– حوادث “بانبري” و”جزيرة الثلاثة أميال” / شهدت الولايات المتحدة الأمريكية حادثان رئيسيان الأول: في 18 ديسمبر 1970 عند أجراء تجربة نووية تحت الأرض في “بانبري” بولاية نيفادا، وأدى الانفجار إلى تشكل سحابة إشعاعية كبيرة بارتفاع 3 كيلومترات في الهواء، وكان بالإمكان رؤيتها من على بعد 120 كم من موقع التجربة، وحملتها الرياح للعديد من الولايات الأمريكية الأخرى، الثاني: وقع الحادث في 28 مارس 1979 في جزيرة “الثلاثة أميال” بولاية بنسلفانيا، وكانت نتيجة انصهار نووي جزئي في أحد المفاعلات النووية الثلاثة الموجودة، وحدث الانصهار بعد تعطل أحد صمامات نظام التبريد مما أدى إلى تسرب كميات كبيرة من سائل التبريد النووي، وسجل المرتبة الخامسة على المقياس الدولي للكوارث النووية.
– انفجار لوسنس / تعرض مفاعل لوسنس في السويد عام 1969، لانفجار كبير نتج عنه تلوث إشعاعي وانهيار في الجزئية الأساسية للمفاعل، لم يصب أي من العمال أو السكان بالإشعاع مع أن الكهف الذي كان يضم المفاعل داخله كان ملوثا بشكل خطير، وقيم الانفجار بـقوة تبلغ 5 حسب المقياس الدولي للحوادث النووية.
– حادث ويندسكال / يمثل حادث ويندسكال أسوأ الحوادث النووية في بريطانيا والذي وقع بتاريخ العاشر من أكتوبر 1957، بدا الحادث بسبب ارتفاع درجة حرارة المفاعل النووي واستمر الحريق لثلاثة أيام، واطلق تلوث إشعاعي انتشر في الجزر البريطانية والعديد من الدول الأوروبية القريبة، وأسفر الحادث عن إصابة ما يقارب 240 حالة بسرطان الغدة الدرقية الناجم عن انتشار التلوث النووي.
– انفجار مفاعل تشرنوبل / وقع الحادث النووي في 26 ابريل 1986 في مفاعل تشرنوبل للطاقة النووية قرب مدينة بريبيات في شمال أوكرانيا، بسبب خلل في أحد المولدات التوربينية أثناء التجارب عليه، ويعد الانفجار أكبر كارثة نووية شهدها العالم حيث وصل الدخان السام إلى سماء أكثر من 12 دولة، وقدرت الأمم المتحدة عدد من قتلوا بسبب الحادث بـ 4 آلاف شخص، بينما قالت السلطات الأوكرانية إن عدد الضحايا يبلغ 8 آلاف شخص، وأُجلي ما يزيد عن 100 ألف شخص من المناطق المجاورة للمفاعل، خوفا من تأثير الإشعاعات القاتلة.
– حادث فوكوشيما / ضرب زلزال قوته 9 درجات الساحل الشرقي لليابان في 11 مارس 2011 ونتج عنه تشكل أمواج تسونامي الضخمة والتي ضربت بدورها محطة “فوكوشيما داييتشي” لتوليد الطاقة النووية ،الواقعة على امتداد الشاطئ، وأفقدتها القدرة على التبريد ومن ثم انصهر ثلاثة من ستة مفاعلات في المحطة، مما أحدث أضراراً بالغة في قلب المفاعل وأدى إلى حادث نووي صُنف في الدرجة السابعة حسب المقياس الدولي لتصنيف الأحداث النووية، ولم تسجيل السلطات اليابانية وفيات في الحادث نتيجة التعرض المباشر للإشعاع النووي.
معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية:
تنص معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية على حظر التجارب النووية على “سطح الأرض وفي الجو وتحت الارض وتحت الماء”، ويذكر أنه تم اعتماد المعاهدة في العام 1996 من قبل الأمم المتحدة، وخلال السنوات الماضية وقعت 183 دولة على المعاهدة فيما صادق عليها 166دولة.
ويشير القائمين على المعاهدة أن هناك ثمان دول لم تصادق عليها وفي مقدمتها الولايات المتحدة” مجلس الشيوخ رفض التصديق عليها عام 1999 بسبب معارضة الجمهوريين، كونها غير قابلة للتنفيذ وتنتهك السيادة”، كذلك الصين والهند وباكستان، بالإضافة إلى مصر وإيران وكوريا الشمالية وأخيراً الكيان الصهيوني.
وبعد مضي 24 سنة من المعاهدة، يُعتقد أن المستقبل في ما يخص الالتزام بالحظر ما يزال غامضا رغم الجهود الحثيثة من قبل القائمين على الأمر، لا سيما وأن الحظر لم تلتزم به كلا من الهند وباكستان وكوريا الشمالية، يضاف إليها الاتهامات المتبادلة ما بين الدول بشأن خرق المعاهدة.
وفي هذا السياق، ذكرت الخارجية الأمريكية من خلال تقرير لها أن الصين ربما أجرت تفجيرات نووية سرية محدودة، وأضاف التقرير: أن المخاوف من احتمال انتهاك بكين لمعاهدة الحظر في التفجيرات النووية نشأت بسبب أنشطة في موقع لوب نور للاختبارات النووية خلال العام 2019.
كما وجهت واشنطن اتهامات أخرى، من خلال الجنرال روبرت آشلي مدير وكالة استخبارات الدّفاع في الجيش الأمريكي، بأن روسيا تنتهك “على الأرجح” معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وقال آشلي “الولايات المتحدة تعتقد أن روسيا ربما لا تلتزم وقف التجارب النووية بالكامل”، وأضاف “إن فهمنا لتطوير الأسلحة النووية يقودنا إلى الاعتقاد بأن أنشطة التجارب الروسية سيُساعد (موسكو) على تحسين قدرات أسلحتها النووية”، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة، على النقيض من ذلك، قد التزمت هذا الحظر بصرامة.
ويُعتقد أن تلك الاتهامات الأمريكية، يراد منها كسب المزيد من الأوراق التفاوضية مستقبلاً، لاسيما عند بدء التفاوض ما بين الدولتين “أمريكا وروسيا” للحد من أسلحة الدمار الشامل، يذكر أن هناك تحركات أمريكية للخروج من معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى، بعد أن اعتبرت أن هناك نظام صاروخي روسي جديدا ينتهكها.
في خضم الاتهامات المتبادلة، أعربت الصين قبل أسابيع عن “قلقها البالغ” إزاء التقارير الإعلامية بشأن مناقشات من جانب مسؤولين أمريكيين لإمكانية استئناف التجارب النووية، وحثت الولايات المتحدة على الوفاء “بالتزاماتها” بموجب معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
وفي مؤتمر صحفي، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو لي جيان ” إنه على الرغم من أن معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية – وهي ركيزة مهمة يقوم عليها النظام الدولي لضبط التسلح النووي- لم تدخل حيز التنفيذ حتى الآن، إلا أن حظر التجارب النووية بات عرفا دوليا، مضيفا أن “المعاهدة لها أهمية كبيرة في تعزيز نزع السلاح النووي ومنع الانتشار النووي وحماية السلام والأمن على النطاق العالمي”، وأضاف تشاو “أن القوى النووية الخمس، بما فيها الولايات المتحدة، وقعت على المعاهدة وتعهدت بتعليق التجارب النووية”، وعلى الولايات المتحدة تعزيز الإسهام في نزع السلاح النووي ونظام عدم الانتشار، بدلاً من التمادي في طريق تقويض الاستقرار الاستراتيجي العالمي.
وسبق الاتهامات الصينية الموجهة نحو الولايات المتحدة، تأكيدات روسية أن واشنطن اتخذت موقف مدمر تجاه معاهدة “الحظر الشامل للتجارب النووية” وبالاستعداد لاحتمال استئناف التجارب النووية، وأشارت الخارجية الروسية في بيان لها “أن روسيا تطالب الولايات المتحدة بإعادة النظر في موقفها وإعطاء الضوء الأخضر لتحويل هذا الاتفاق الأكثر أهمية من وجهة نظر الأمن العالمي إلى أداة قانونية دولية تعمل بكامل طاقتها.
يشار إلى أن الاتهامات الموجهة للولايات المتحدة ،تصاعدت مؤخراً، في اعقاب انسحابها الرسمي في اغسطس 2019 من معاهدة القوى النووية “متوسطة المدى” التاريخية.
جدير بالذكر، أن الأطراف الداعمة لحظر التجارب النووية ينظرون بإيجابية للمعاهدة، كونها ساهمت “إلى حداً كبير” في الحد من تلك التجارب، بالإضافة إلى أن المعاهدة عززت المعايير الدولية في مكافحة التجارب النووية، من خلال النظر إلى أن أي انتهاك لها سوف يواجه بالإدانة الدولية.
ويشير القائمين على “معاهد حظر التجارب النووية” أن نظام التدقيق المتعلق بالمعاهدة “تقنياً” يستطيع الكشف عن أية خروقات، فعند إجراء التجارب النووية، وأن كانت في مناطق نائية في العالم يستطيع النظام تزويد الأعضاء ببيانات دقيقة وموثوق بها وضمن الإطار الزمني لها بشأن طبيعة ذلك الحث، وبالتالي فأن نظام التدقيق يعتبر بمثابة أداة مهمة لا غنى عنها وبالإمكان الاستفادة منها ووضعها تحت تصرف المجتمع الدولي، ويصف القائمين على النظام “بأنه منصة للتعاون الدولي من أجل عالم أكثر أمناً”.
سبأ