محمد فرج*



لا نعرف الكثير عن جنازات الرؤساء والملوك الغربيين في العالم، أو لنكن أكثر دقة، لا نحفظ الكثير من التفاصيل عنها، كان بكاء الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في تأبين أبيه خبراً يومياً عادياً، وقبل عقود، لم يكن في جنازة تشرتشل ما هو استثنائي. في الغرب، تغرق اللجان المسؤولة عن الجنائز في عدد الصحافيين المشاركين في الحدث، ونسب تمثيل الشخصيات الرسمية، وتحديد لحظات إطلاق المدافع، ولكن الحضور الشعبي، ليس عاملاً ذا قيمة، طالما أنّ المؤسسة التي تلبي حاجات الناس الاستهلاكية مستمرة في العمل.



الجنائز التي شهدت الحضور الجماهيري الأكبر كانت في الشرق، ولا علاقة لذلك بحجم الكتلة السكانية فيها، ولكنه مرتبط بطبيعة العلاقة التي تنشأ مع الفرد في موقع الحكم أو الثقافة والفن أو الدين أو غيرها. تعتبر مراسم تشييع عبدالناصر ونيلسون مانديلا والخميني من أكبر الفعاليات التي شهدت وداعاً للقادة.



المصريون والعرب الذين شاركوا في جنازة عبدالناصر، وعلى الرغم أنه لم يمضي أكثر من 3 سنوات على خروجهم من هزيمة حزيران 1967، إلّا أن الحشد الكبير كان يودّع الرجل الذي قرّر المواجهة، وامتلك طموحاً ديناميكياً للاستمرار فيها، ويودّع عبدالناصر، الرئيس والفلاّح والضابط، جنوب أفريقيا ودّعت مانديلا الذي مثل أيقونة التخلص من نظام الفصل العنصري، مع أن مانديلا عندما توفّى، لم يكن في موقعه كرئيس للدولة. الإيرانيون ودّعوا الخميني بوصفه العنوان الأبرز في إسقاط نظام الشاه، الذي لم يتوقع أحد أنه نظام قابل للسقوط أساساً، واستتبع ذلك تحويل مسار الدولة الذي انسجم مع المزاج العام للناس.



شهد العقد الثاني من هذا القرن رحيل شخصيتين ثوريتين كبيرتين، هوغو تشافيز وفيديل كاسترو، وعلى الرغم من موقعهما كرؤساء لدول، إلا أن الحضور الرسمي في جنازتيهما تركّز على دول أميركا اللاتينية وأفريقيا، وكأن الجنوب هو الذي كان معنياً بوداعهما وإلقاء التحية الأخيرة لبطولتهما، أما الغرب فكان معنياً بالتخلص منهما؛ يقول اللاتينيون أنّ الغرب عندما يضع الزهور على قبر بوليفار، يفعل ذلك ليتأكد فعلاً أنه قد مات!



ثمة حالة خاصة وغريبة في تشييع الشهيد السيد حسن، واستثنائية شرقاً وغرباً؛ فالحجيج إلى لبنان يأتي لرجل بدأ بالهتاف بين الناس وبـ"مغامرة" تنظيمية لم يتوقع أحد نجاحها، فإذا بها تتحول إلى قوة إقليمية، وإذا بالمقاوم الصادق ينمو ليكون مخططاً استراتيجياً فذّاً، ومحاوراً سياسياً مقنعاً، امتلك الحجة المتماسكة في الفضاء الشعبي العام. اعتبر الكثير مهمة "تثقيف الجمهور" أمراً مستحيلاً، وأن كتابات فرانز فانون بشأنها لم تكن إلاّ مناورات فكرية جذّابة وحالمة، فأنت لا تستطيع انتزاع قلوب الناس إلا بمخاطبة غرائزهم، أما أن تأسرهم بالمرور من عقولهم، فتلك محاولة عبثية غير ممكنة التحقق؛ لكنّ نصرالله فعلها !



عاش الشهيد السيد حسن حياته بفرضية واحدة، ونظرية واحدة تفرّعت كثيراً، ولكن بقي جذرها واحداً، استمرّ في العمل عليها من موقع واحد، قائداً لفكرة وحزب وليس دولة أو حكومة، وربما ذلك ما أبقاه مشتعلاً إلى هذا الحد، إلى لحظة استشهاده !



كُتبت هذه السطور قبل انطلاق مسير الوداع الأخير، وقبل تقديرات أعداد المشاركين، وقبل المحاولات الإحصائية من الجو، وقبل العودة إلى سجلات الزائرين في حواسيب مطار بيروت، ومع الثقة بحضور الموج البشري العالي؛ فإن مشاكلة الأرقام في هذه الأحداث ليست من هوايات السيد، ولا تروق له كثيراً، فهو المنغمس في النّوع على حساب الكمّ، ولولا ذلك، لما بدأ أصلاً !



إذا كان جلّ الحضور في تشييع القيادات السياسية المناهضة للهيمنة الأميركية من الجنوب العالمي، فأضاف له السيد حسن كل المجموعات "المتمردة المشاكسة" في العالم، التي رأت مشروعها في مرآته؛ فيحضر القوميون لتشييع البطل العربي المخلّص، ويحضر اليساريون لوداع نصير الفقراء، ويحضر الإسلاميون الصادقون لتقبيل نعش من جنّب لبنان والمنطقة الفتنة الطائفية، ويحضر المسيحيون الوطنيون لأنهم يعرفون أن المسيح كان الفدائي الأول.



يشبه السيد حسن الثورة الفلسطينية التي أحبّها، فوحدها معه كانت قادرة على عقد اجتماع عام لثوريي العالم!



اليوم توجّه الكاميرات عدساتها إلى السيل البشري الجارف، إلى عمق الشوارع والأرصفة، هناك يقف أبناء الجنوب في استراحة من نزوحهم افتداءً للمقاومة، وأبناء الضاحية على مشارف بيوتهم المهدّمة، ويقف فلسطيني ممتنّ لإسناد لانهائي، وعربي طامح في استنساخ التجربة، وصحافي غربي اكتشف خيوط اللعبة في بلاده، فجاء يحيي من فهم دهاليز اللعبة بدقة من بعيد.



عندما رحل تشافيز قبل رفيقه كاسترو، قال الأخير "رحل تشافيز من دون أن يهزم"، ولكن السيد حسن، أسعفنا بالكلمات قبل الرحيل "نحن لا نهزم، عندما ننتصر ننتصر، وعندما نستشهد ننتصر"!



استشهد السيد حسن، وهو على رأس عمله، في مهنته الوحيدة التي لم يعرف غيرها، الثورة الشاملة ضد الظلم!



* تم نقل المادة الصحفية حرفيا من الميادين نت