كيف “هزم” اليمن أمريكا ؟
عبد الباري عطوان
أثبتت القوّات البحريّة التّابعة لصنعاء أنّ حاملات الطّائرات والبوارج الحربيّة لم تَعُد قادرةً على حماية الخُطوط أو المضائق البحريّة، مهما بلغت درجة تقدّمها وقُدراتها العسكريّة، الأمر الذي بات يُثير قلق ورُعب الولايات المتحدة الأمريكيّة، ويُهَدّد نُفوذها، وقواعدها، في مِنطقة الشّرق الأوسط، وربّما مناطق نُفوذ أُخرى في العالم.
ما تفعله الصّواريخ والزوارق والمُسيّرات البحريّة اليمنيّة بات يُشكّل انقلابًا في كُلّ المعايير والنظريّات العسكريّة البحريّة المُتداولة مُنذ مئة عام، وتُدرّس في الأكاديميّات الغربيّة، ويُؤسّس لنظريّات جديدة تتبلور بشَكلٍ مُتسارعٍ هذه الأيّام، فبينما يُكلّف بناء حاملات الطّائرات والبوارج مِليارات الدّولارات، فإنّ صاروخًا يمنيًّا لا يُكلّف تصنيعه إلّا بضعة آلاف يستطيع إعطابها في ثوانٍ معدودة، وهُنا تكمن المُعضلة الأمريكيّة غير المُتوقّعة.
أخطر ما يُقلق الاستراتيجيين السّياسيين والعسكريين الغربيين هذه الأيّام هو “عدوى” التحدّي اليمني البحَري واحتِمالات انتقاله إلى دُول الجِوار العربيّ أوّلًا، ومن ثمّ العُمُق الإسلامي ثانيًا، “فاليمن الجديد” باتَ يُشكّل نموذج “كوريا شماليّة” أُخرى في الجزيرة العربيّة، بشَكلٍ أو بآخَر، بعد سيطرته الكاملة على البحرين العربيّ والأحمر، وامتِداد هذه السّيطرة إلى المُحيط الهندي، ورأس الرّجاء الصّالح، ومضيق هرمز بشَكلٍ مُباشر، أو غير مُباشر.
الهجمات الأمريكيّة الانتقاميّة التي استهدفت صعدة، والحُديدة، وأهدافًا يمنيّةً أُخرى لم تُحقّق أهدافها في “إرهاب” اليمن، بل أعطت نتائج عكسيّة من حيث توسيع نطاق الحرب البحريّة إلى المُحيطات والبِحار المفتوحة، سواءً في المُحيط الهنديّ أو السّاحل الإفريقيّ الشّرقيّ حتّى رأس الرّجاء الصّالح في جنوب إفريقيا.
صاروخ بحَري يمني واحد أطلقته القوّات البحريّة اليمنيّة على البارجة الأمريكيّة العِملاقة “يو إس إس لابون” في البحر الأحمر (كلّف بناؤها مِليار دولار) أصاب القيادة البحريّة الأمريكيّة بحالةٍ من الذّعر غير مسبوقة، لأنّها لم تعد تملك أيّ ردٍّ مُجدٍ على هذا الصّاروخ، فلا تُوجد في اليمن قواعد عسكريّة أو ناطحات سحاب، ولا بُنَى تحتيّة مدنيّة مِثل محطّات توليد طاقة أو مياه، ولا مصافي نفط عِملاقة، وإن وُجِدَت فلا تُقارن مع نظيراتها في المِنطقة والعالم، وهذا أحد مصادر القُوّة، فالفقر المادّي نعمة وفضيلة.
***
هُناك عدّة مُؤشّرات رئيسيّة تُؤكّد أن سيطرة حركة “أنصار الله” اليمنيّة وقوّاتها البحريّة على البحر الأحمر والمُحيط الهندي ورأس الرّجاء الصّالح، باتت المِحور الرئيسي للتحرّكات الأمريكيّة السياسيّة والدبلوماسيّة في المِنطقة بشَكلٍ مُباشر أو غير مُباشر هذه الأيّام، ويُمكن حصر رد الفِعل الأمريكي المأزوم في النّقاط التّالية:
أوّلًا: المُفاوضات السريّة الأمريكيّة الإيرانيّة التي جرت في أحد العواصم الخليجيّة (يُعتَقَد أنّها مسقط) وتركّزت حول كيفيّة تهدئة الهجمات اليمنيّة في البحر الأحمر، وبحر العرب، والمُحيط الهندي التي تستهدف السّفن الإسرائيليّة وحاملات الطّائرات، والبوارج الأمريكيّة مُقابل تخفيف العُقوبات على طِهران، والإفراج عن مِلياراتها المُجمّدة، والضّغط على إسرائيل لوقف عُدوانها على قِطاع غزة حسب مصادر إقليميّة مُطّلعة جدًّا.
ثانيًا: الجولة الحاليّة التي يقوم بها أنتوني بلينكن وزير الخارجيّة الأمريكي في المِنطقة، وتشمل زيارة ست دُول من بينها أربعة مُطلّة على البحر الأحمر وهي مِصر والأردن والمملكة العربيّة السعوديّة و”إسرائيل” إلى جانب قطر، والهدف الأبرز فيها وقف حرب الإبادة في غزة، ومنْع دولة الاحتِلال من اجتِياح رفح، وإيصال المُساعدات لأهل القِطاع تجاوبًا مع المطالب والشّروط اليمنيّة التّضامنيّة، فِعلًا وقولًا، مع أبناء القطاع المُجَوَّعين المُحاصَرين.
ثالثًا: زيارة وفد من حزب الله بقيادة الحاج وفيق صفا رئيس دائرة الأمن والارتباط لأبو ظبي، والغطاء هو الإفراج عن سبعة مُواطنين لبنانيين مُحتَجزين فيها بتُهمة الانتماء للحزب، وهذه الزّيارة الانفتاحيّة التّصالحيّة لا يُمكن أن تتم إلّا بعِلم الولايات المتحدة وتشجيعها، لتخفيف حدّة التّوتّر، وكسر الحِصار المفروض على حزب الله، وفتح قناة حوار معه حول المِلف اليمني، وشلّ المِلاحة في البحر الأحمر والمُحيط الهندي، وإغلاق مضيق باب المندب كُلِّيًّا في وجه التّجارة البحريّة الإسرائيليّة، فحزب الله هو الأكثر خبرة في المِلف اليمني وتطوّراته بتَكليفٍ من محور المُقاومة.
رابعًا: ضربت صواريخ “أنصار الله” اليمنيّة أكثر من 76 سفينة مدنيّة حربيّة تابعة أو مُتّجهة إلى “إسرائيل وموانئها” مُنذ إعلان صنعاء إغلاق البحر الأحمر تضامنًا مع قطاع غزة، وردًّا على حرب الإبادة والتّطهير العِرقي الإسرائيليّة، وتُوجد اليوم ناقلتا نفط مُحتَجزتين من قِبَل القوّات البحريّة اليمنيّة، وفشلت كُل مُحاولات الأُمم المتحدة ووسطائها في الإفراج عنهما وسحبهما وإحداها تحمل موادًّا سامّة يُمكن أن تتسرّب وتُسَمّم البحر الأحمر وبحر العرب وربّما المُحيط الهندي أيضًا.
خامسًا: أكّدت وكالة بلومبرغ الأمريكيّة في تقرير لها اليوم أن الصين وروسيا توصّلتا إلى اتّفاقٍ مع حُكومة صنعاء يَنُصّ على أنّه بإمكان سُفنهما الإبحار في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب بكُل حُريّة وأمان، وعدم التعرّض لها وتولّى السيّد محمد عبد السّلام كبير المُفاوضين اليمنيين إنجاز هذه الصّفقة رسميًّا مُمثّلًا عن حُكومته، وسيكون المُقابل توثيق العُلاقة على الصُّعُد كافّة بين اليمن والقُوّتين العظميين، وتقديمهما الدّعم السّياسي للقِيادة اليمنيّة في المحافل الدوليّة وخاصَّةً الأمم المتحدة، ومنْع أيّ قرارات تَصدُر عنها ضدّ اليمن.
***
ثقافة المُقاومة المُعزّزة بالصّواريخ والمُسيّرات التي تتبنّاها القيادة اليمنيّة في صنعاء ضدّ دولة الاحتِلال وداعميها في واشنطن والعواصم الغربيّة تنتصر، وتقلب كُل مُعادلات القُوّة والسّياسة في العالمِ بأسْره وليس مِنطقة الشّرق الأوسط فقط، وأصبح اليمن بمواقفه الشّجاعة قوّةً إقليميّة جبّارة تتحدّى الولايات المتحدة وحاملات طائراتها بشَكلٍ فاعل ومُؤثّر، وتُبلور مفهومًا جديدًا للرّدع يستند إلى التّضحية والفِداء والتّعاطي مع القِوى العُظمى بلُغةِ القُوّة والاعتِماد على الإمكانيّات الذاتيّة والنّفس الطّويل.
“أبو يمن” بات يُسيطر على أهم البُحور والمُحيطات والمضائق في العالم، دُون أن يملك الأساطيل والبوارج، بقُوّة العزم والإرادة، ويُرعب حامِلات الطّائرات المِلياريّة بصواريخٍ لا تُكلّف بضعة آلاف من الدّولارات وهُنا يَكمُن الإعجاز الحقيقيّ.
أمريكا مُجبَرةٌ على التغيّر، والاعتَراف بالقُوّة اليمنيّة الجديدة العُظمى المدعومة بمحور المُقاومة، والقيم الأخلاقيّة وفُقراء العرب والمُسلمين، وهذا ما يُفسّر هلعها من تطوّرات حرب غزة، وسعيها الدّؤوب والمُتعجّل لإنقاذ دولة الاحتِلال من فنائها المُؤكّد، أو تأجيله على الأقل.. والأيّام بيننا.
- المصدر: رأي اليوم
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع