السعودية ومعوقات التطبيع القادم
عبير بسّام*
تمر المملكة العربية السعودية اليوم في مرحلة حرجة جداً أوقفت معها اتفاق التطبيع مع الصهاينة بسبب استمرار المجازر في غزة بوتيرة متصاعدة غير مسبوقة. اذ كشفت الجرائم في غزة عن وحش ضار يلتهم الضحايا ولا يشبع، حتى أن تصريحات الأمراء السعوديين خلال لقاءاتهم وعبر كلماتهم، مع أنهم يبدؤون دوماً بلوم حماس على تنفيذ عملية طوفان الأقصى، إلا أنهم في الشق الثاني من تصريحاتهم يلومون الصهاينة، ويدينون المجازر التي تنفّذ بأهل غزة. وبالتالي فقد فرض الوضع المأساوي الإنساني في غزة نفسه، فأوقفت السعودية المفاوضات من أجل توقيع اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني والمنخرط ضمن اتفاقيات ابراهام.
إلا أن المملكة لم توقف العمل بالمشاريع التجارية مع الصهاينة، ويستمر الجسر الجوي الأميركي بالمرور فوق أراضيها لدعم الصهاينة بالسلاح، فيما تُعيق وصول المسيّرات والصواريخ اليمنية الموجهة لضرب الصهاينة في المناطق التي يستعمرونها في تل أبيب وميناء إيلات وغيرها. واليوم تمرر عبر أراضيها الشاحنات المعبأة بالأغذية والأدوية، عبر الممر البديل من البحرين والإمارات إلى معبر ابو سالم الأردني، فيما غزة محاصرة.
إذا كانت هذه هي الحال فما الذي يوقف توقيع الإتفاق؟
ما يهم ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، هو المضي بمشروع 2030، والذي يريد من خلاله أن يأخذ السعودية نحو مسار اقتصادي واجتماعي مغاير تماماً للمسار القديم، وقد اتخذ خطوات جريئة، نحو وضع السعودية على هذا الطريق. كما بات من المعروف، أن هناك مكاسب تريد السعودية ضمان تحقيقها والحصول عليها من الولايات المتحدة، مقابل التطبيع مع الكيان، وهي:
اتفاقية أمنية ثنائية مع الولايات المتحدة على غرار اتفاقية الناتو، تلتزم فيها الولايات المتحدة بالدفاع عن المملكة في حال تعرضها لأي هجوم.
تزويد المملكة بعقود طويلة الأمد لأسلحة متطورة تشمل طائرات F35، وأنظمة دفاع صاروخي متطورة مثل بطاريات THAAD.
بناء برنامج نووي سلمي يتضمن منشآت لتخصيب اليورانيوم داخل المملكة.
تقديم “اسرائيل” تنازلات بعدم ضم أراضي الضفة الغربية، وازداد التزام المملكة بهذه المطالب بالذات بعد أن شهد العالم المجازر الصهيونية في غزة. ويكرر المسؤولون في المملكة موقفهم بإقامة دولة فلسطينية على أراضي ال 67، وعاصمتها القدس الشرقية. وهنا يمكننا أن نستنتج أن السعودية تريد لعب دور استثنائي بما يتعلق بالقضية الفلسطينية وسحب البساط من تحت أرجل مصر ومحور المقاومة على حد سواء.
وبحسب ما ذكر توماس فريدمان في مقاله في صحيفة نيويورك تايمز، في آخر تموز/ يوليو الماضي، أي قبل طوفان الأقصى بأشهر، أن الشرط الأخير، هو من أهم الشروط التي أخبره إياها الرئيس الأميركي جو بايدن. كما صرح يومها تساحي هنغبي، وزير صهيوني بلا حقيبة، بأن “اسرائيل” ليس لديها قلق من احتمال تطوير السعودية قدرات نووية مدنية.
وأما أهم ما تريده واشنطن من التطبيع، تطبيع شامل على الطريقة، التي وقّعت بها اتفاقيات ابراهام السابقة. إضافة إلى وضع قيود على العلاقة المتنامية ما بين السعودية والصين، والتخلي عن تسعير النفط باليوان، والحد من التعامل مع شركات التكنولوجيا الصينية المتقدمة مثل هواوي، وعدم السماح بتواجد عسكري صيني في المملكة. وتنظر الولايات المتحدة بقلق للتعاون ما بين روسيا والسعودية في مجال الطاقة، وتريد وضع حد نهائي له.
بعد 3 أيام من عملية طوفان الأقصى، طلب السعوديون تعليق المحادثات الثلاثية. وفي 10 كانون الثاني/ يناير من هذا العام، عاد الحديث عن عوائق التطبيع مع السعودية، والتي أعلنت أن التوقيع على التطبيع لن يكون إلا بعد إعطاء الفلسطينيين حقوقهم، وإقامة الدولة الفلسطينية. مع أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بعد زيارته إلى السعودية، قال إنه بعد أن ينتهي “النزاع”، ستتم متابعة الأمر، ولكن ما يظهر في التصريحات السعودية أنهم مصرّون على موقفهم. وفي سؤال للسفير السعودي حول عملية التطبيع، وعن موقف السعودية من حماس، كمنظمة تصنف إرهابية لدى الولايات المتحدة وبريطانيا و”اسرائيل”، أجاب أن المهم الآن: “أن يتحدد طريق عملي نحو دولة فلسطينية”، وأن “هناك دائماً مجال للتغيير”، وأن “المشكلة الحالية مع الحكومة الحالية في اسرائيل هو أن نظرتها متطرفة مطلقة، لا تسمح بتحقق توافق”. وبناء على ذلك لن يكون بالإستطاعة إنهاء النزاع.
ثمة مشكلة في التعابير المستخدمة من قبل السعوديين والإصرار على ان ما يجري هو نزاع، وكأنه نزاع قريتين نائيتين على بئر ماء يقع بين حدودهما. فالأمر أكبر من ذلك، والسعودية لا يمكنها أن تنأئ بنفسها عن المعرفة التي تحيط بها حول القضية الفلسطينية. ويتضح من تصريح السفير السعودي في بريطانيا أن عملية التطبيع كانت تسير على قدم وساق، واليوم أوقفت السعودية التوقيع على اتفاقية التطبيع في المرحلة الحالية، ليس لأسباب إنسانية فقط، ولكن بسبب تطرف الحكومة الصهيونية الحالية، بحسب السفير السعودي. وبالتالي فإن التوقيع في هذه المرحلة سيفقد البلد الدور الذي يرغب محمد بن سلمان السير به نحو تحقيق مشروع 2030 في منطقة تسودها النزاعات. كما أن التوقيع في هذه المرحلة، سيُضعف السعودية حتماً، وسيضعها في مرتبة ودور أقل بكثير من الدور الذي تلعبه الإمارات اليوم. وستخسر مكانتها وهيبتها بين الدول العربية.
من الواضح أن هناك أسباباً داخلية تمنعها من التوقيع قبل حل القضية الفلسطينية بما يضمن حقوق الشعب الفلسطيني، وتفعيل مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك الراحل عبد الله، والتي تم تعديلها خلال مؤتمر الجامعة العربية في بيروت في العام 2002. ومن الأسباب الداخلية، التي تعرقل توقيع أي اتفاق سلام، هو رفض الملك سلمان، الملك الحالي أن يتم توقيع هكذا اتفاق في عهده. والأمر الآخر، موقف الشارع السعودي في الداخل، والذي تقول تقارير متعددة أنه يغلي بسبب ما يحدث في فلسطين. علينا أن نعلم أنه منذ أن أُنشئت المملكة السعودية، كان معظم عناصر كادرها التعليمي والإداري والإستشاري، هم من الفلسطينيين، وهو إرث ترك أثراً عميقاً، وبالتالي إذ فإن المملكة ستكون على كف عفريت.
من المؤثرات الكبرى، التي تتعلق بتأجيل السعودية للتوقيع، والتي جاءت كنتيجة حتمية لذلك المنظر الذي لا يُنسى، عندما زارها دونالد ترامب في العام 2017، وبدأ بعرض لوح من الورق المقوى، وعليه صور الطائرات والأسلحة التي سيتم بيعها لها. قَدم ترامب يومها العروض بطريقة مثيرة للسخرية، ودفعت السعودية يومها مبالغ وصلت إلى 460 مليار دولار مقابل الإتفاقيات والعقود، ولكن لم تقم الولايات المتحدة بتزويد السعودية بطائرات F35، التي وعدت بها مع كافة امكانياتها العسكرية والتقنية بسبب اعتراض الصهاينة. وبعدها بدأ محمد بن سلمان مساراً آخر من العلاقات الدولية التجارية والتقنية وحتى العسكرية مع كل من الصين وروسيا. وشهدنا على توسيع المملكة لعلاقاتها وشركاتها في العالم، وأصبحت عضواً في مؤتمر شنغهاي، وشهدنا في آذار 2022 عودة العلاقات الإيرانية –السعودية بوساطة صينية وتم تبادل السفراء ما بين البلدين، أي أن السعودية أرادت دخول العام 2023 مع صفر مشاكل وهذا ما حدث.
استطاعت السعودية إعطاء نفسها دفعة متقدمة إلى الأمام من خلال بناء العلاقات الدولية مع مختلف الأطراف بدلاً من إبقاء العلاقات متمحورة فقط حول الولايات المتحدة، وبدأت بتنويع مصادر دعمها الأمني والتكنولوجي والتجاري، واستطاعت أن تضع لها موطئ قدم كقوة إقليمية فاعلة، وفي نفس الوقت استطاعت بناء شراكة مع الصين عبر دخولها ضمن مشروع “حزام وطريق”، كما أن دورها بات أساسياً في ممر البخور، أو ما يسمى الممر الكبير أو ممر بايدن، والذي اقترحه كخط للتجارة العالمية يمتد من الهند إلى ميناء حيفا، عبر إقامة قناة بن غوريون، مما سيهمش قناة السويس ويضع مصر في أسوء أوضاعها الإقتصادية. وهذا سيمكن السعودية من الحصول على المكانة الهامة التي تحتلها مصر في العالم العربي، وخاصة بما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
لم تنكر السعودية يوماً أهدافها وما تأمل تحقيقه من توقيع معاهدات التطبيع مع الصهاينة، وهي تعلم جيداً حاجة بايدن لهذا التوقيع في المرحلة الحالية كإنجاز يحققه، خاصة وأن الإنتخابات الأميركية باتت على بعد أشهر. في أيلول/ سبتمبر الماضي، كان مشروع التطبيع يسير على قدم وساق، وكانت الولايات المتحدة على قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هذا الإنجاز، وتسير نحو إنجاز ممر البخور، وبدأت كل من السعودية ومصر والإمارات ببناء معابد هندوسية على أراضيهم كبادرة حسن نية تجاه الشركاء الهنود القادمين مع البخور، ولكن “طوفان الأقصى” أطفأ جمرته، وبات الأمر على قائمة الإنتظار.
* المصدر: موقع الخنادق الاخباري
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب