السياسية – تقرير: مرزاح العسل*

 

في محاكمة يصفها مراقبون بـ”التاريخية” لكيان العدو الصهيوني بتهمة الإبادة الجماعية في غزة.. تنطلق اليوم الخميس، أمام محكمة العدل الدولية جلسات استماع للنظر في دعوى رفعتها جنوب أفريقيا، تتهم فيها هذا الكيان الغاصب بارتكاب جرائم إبادة جماعية في الحرب على غزة، وتطالب بوقفها بشكل عاجل.

ومن المقرر أن تستمع محكمة العدل بهيئتها المكونة من 15 قاضيا، لدولة جنوب إفريقيا وفريقها القانوني على مدار ساعتين، وتُرفع الجلسة للتداول، ويوم غد الجمعة ستستمع لكيان العدو الصهيوني ثم تُرفع الجلسة للنظر في الإجراءات والتدابير العاجلة.

واعتبر مراقبون أنها قضية القرن أمام “محكمة العدل الدولية”، حيث سيدخل محامون يمثلون جنوب أفريقيا، وآخرون يمثلون كيان العدو الصهيوني، إلى قاعة المحكمة، على مرأى من العالم أجمع.

وفي مذكرة تقع في 84 صفحة، دعا المحامون القضاة إلى إصدار أمر لكيان العدو الصهيوني بـ”تعليق عملياته العسكرية فورا” في غزة.. مشيرين إلى أن الكيان الغاصب “انخرط وينخرط ويواجه خطر الانخراط أكثر في أعمال إبادة”.

وأشار مُعلّقون متخصصون في القضاء إلى أن الدعوى مُحكمة في صياغتها وتستند إلى مراجع دقيقة.. وستبدأ جلسات الاستماع في محكمة العدل اليوم ويتُوقع صدور قرار في غضون أسابيع.. وبينما تعد قراراتها ملزمة، لا تملك محكمة العدل طريقة لفرضها فيما يتم تجاهلها تماما في بعض الأحيان.

وطلبت جنوب إفريقيا من المحكمة إصدار أوامر عدة منها أن “تعلق (إسرائيل) فورا” هجومها في قطاع غزة ووضع حد للتهجير والسماح بوصول المساعدات الإنسانية والمحافظة على الأدلة.

وتطالب جنوب إفريقيا في الدعوى المقدمة إلى محكمة العدل الدولية “الإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل الحماية من الضرر الإضافي الجسيم وغير القابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، ولضمان امتثال الكيان الصهيوني لالتزاماته بموجب الاتفاقية بعدم المشاركة في الإبادة الجماعية، ومنعها، والمعاقبة عليها”.

كما اعتبر مراقبون دعوى “الإبادة” التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد كيان العدو الصهيوني “تاريخية”، حيث أرسلت جنوب إفريقيا عددا من أبرز محاميها إلى لاهاي من أجل مواجهة قانونية في محكمة العدل الدولية، لإجبار هذا الكيان المؤقت على وقف هجومه الدامي على قطاع غزة، والذي خلف نحو 30 ألف شهيد ومفقود ومئات الآلاف من الجرحى والمشردين.

وتؤكد أستاذة القانون الدولي في جامعة كيب تاون في جنوب إفريقيا، “أنه أفضل فريق.. يضم أشخاصا يملكون خبرة في القانون الدولي مع آخرين يُعرفون بمهارتهم خصوصا في الترافع أمام المحاكم”.

ويشار إلى أن الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية مدفوعة بأسباب تاريخية، إذ يرى حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” الحاكم والداعم للقضية الفلسطينية أن هناك رابطا بينها وبين كفاحه ضد حكومة الأقلية البيضاء التي كانت تقيم علاقات تعاون مع الكيان الصهيوني.

وتقول الأستاذة المساعدة في القانون الدولي في جامعة لايدن سيسيلي روز في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية: “في مرحلة التدابير الاحتياطية، لن تحدد المحكمة ما إذا كانت إبادة تجري في غزة”.. مضيفة: “ستكتفي المحكمة بتحديد ما إذا كان هناك خطر حصول ضرر لا يمكن تعويضه للحقوق الواردة في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ولا سيما حق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال تهدد وجودهم كمجموعة”.

فيما يشدد أستاذ القانون الدولي في جامعة لايدن إريك دي براباندير، على أنه “يجب القبول بمحدودية العدالة الدولية: فهي تعمل لكن فاعليتها تتطلب إرادة سياسية لا تكون متوافرة على الدوام”.

وترى سيلين بارديه، الخبيرة في القانون الدولي وجرائم الحرب، في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية أن أي قرار سيكون له “دلالات رمزية”.. لافتة إلى أن “هذا سيذكّر العالم بأن الدول مسؤولة أيضا وهذا مهم”.

وتقول المحامية اللبنانية السابقة في المحكمة الجنائية الدولية ديالا شحادة: “إن “إسرائيل” قرّرت المثول أمام المحكمة لأنها من الأطراف الموقعة على اتفاقية الإبادة الجماعية الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1948، وبالتالي لا يمكنها تجاهل الدعوى، أو المخاطرة بصدور حكم غيابي بحقها”.

ويشار إلى أن محكمة العدل الدولية لا تتسم بسرعة قراراتها إلا أن طلبات “التدابير الموقتة” لها الأولوية على كل القضايا الأخرى وقد يأتي القرار سريعا نسبيا، أي في غضون أسابيع.. في المقابل قد يحتاج القرار في جوهر القضية إلى سنوات عدة.

وكانت محكمة العدل الدولية قد قالت يوم الجمعة الـ29 من ديسمبر الماضي: إنها تلقت طلبا من جنوب إفريقيا لرفع دعوى ضد “إسرائيل” لانتهاكها اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وجاء في الدعوى أن “إسرائيل” “قامت بأفعال تهدف للتطهير العرقي في غزة”.

ووفقاً للحجج المقدمة في الملف، فإن أعمال الإبادة المذكورة تشمل قتل الفلسطينيين، والتسبب بضرر جسدي ونفسي خطير، وتعمّد خلق ظروف تهدف إلى “تحقيق تدميرهم جسديا كمجموعة”، كذلك يرد في الملف أن هناك تصريحات علنية لمسؤولين إسرائيليين تعبر عن نية الإبادة.

وللمفارقة التاريخية كانت جنوب أفريقيا شريكا قويا للكيان الصهيوني وصنوا لها في تطبيق نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، واليوم باتت الدولة التي تخلصت من إرثها العنصري خصما قانونيا لـ”تل أبيب” في محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية في غزة، وتعد هذه المرة الأولى التي تجري فيها مقاضاة “إسرائيل” على الانتهاكات التي ترتكبها في حق الشعب الفلسطيني.

ووقعت كل من جنوب أفريقيا والكيان الصهيوني على اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 التي تمنح محكمة العدل الدولية الاختصاص القضائي للفصل في النزاعات على أساس المعاهدة، وتلزم الاتفاقية جميع الدول الموقعة بعدم ارتكاب الإبادة الجماعية وبمنعها والمعاقبة عليها

ومن زاوية تاريخية، اعتمد الكيان الصهيوني والعصابات الصهيونية قبل نشأة الكيان المؤقت على ارتكاب الجرائم الوحشية التي كانت تهدف إلى الترويع وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وتشير أبحاث لمراكز فلسطينية إلى وقوع أكثر من 100 مجزرة كبرى منذ عام 1947 تتوفر فيها جميع مقومات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي، لكن “إسرائيل” بقيت خارج دائرة المحاسبة.

وتؤكد معظم المنظمات الحقوقية وذات الطابع الإنساني والإغاثي مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومن رايتس ووتش وأطباء بلا حدود ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ومنظمة الصحة العالمية، والصليب الأحمر الدولي على الطابع الإجرامي للأعمال العسكرية الصهيونية ضد السكان المدنيين، وحتى ضد موظفي الهيئات الدولية.

ويذكر أن محكمة العدل الدولية التي تسمى أيضا المحكمة العالمية هي أعلى هيئة قانونية تابعة للأمم المتحدة، تأسست عام 1945 للتعامل مع النزاعات بين الدول، وهي تختلف عن المحكمة الجنائية الدولية القائمة على المعاهدات، والتي تتخذ أيضا من لاهاي مقرا وتتعامل مع تهم جرائم الحرب الموجهة ضد الأفراد.. وكل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تتمتّع تلقائياً بعضوية محكمة العدل الدولية.

ويمكن لأي دولة أن ترفع قضية أمام محكمة العدل الدولية، التي تتألف من 15 قاضياً ينتخبون من قبل الجمعية العامة ومجلس الأمن التابعان للأمم المتحدة لمدة تسع سنوات.. ومن ضمن اختصاصات المحكمة، النظر في النزاعات المتعلقة باتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948.

وتم تعريف الإبادة الجماعية في الاتفاقية الدولية الأولى لمناهضة الإبادة الجماعية، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948 ودخلت حيز التنفيذ عام 1951، ثم في العديد من نصوص الأمم المتحدة وفي نظام روما الأساسي (المادة السادسة) في حد ذاته.

ويرى خبراء في القانون أن ارتكاب فعل الحصار الخانق والمنع الكلي أو الجزئي لدخول المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية، وما تم توثيقه من هجمات مقصودة ومدبرة على المستشفيات وسيارات الإسعاف وغرف الإنعاش ووفاة المرضى والأطفال بسبب استحالة علاجهم، والتهجير الممنهج والقسري للغزيين إلى الجنوب يدخل ضمن سياق الإبادة الجماعية.

ويشير حقوقيون إلى وجود ما سموه “نزعة إبادة جماعية” متواترة ومتكررة في التصريحات والخطابات الرسمية لأعضاء حكومة بنيامين نتنياهو أو مسؤولين آخرين، ومن بينها استحضار سردية “الحرب ضد قوى الشر والبربرية”، وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم ووصفهم بالحيوانات، حيث قال وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت في التاسع من أكتوبر 2023: “نفرض حصارا كاملا على مدينة غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود كل شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقا لذلك”.

ومنذ السابع من أكتوبر الماضي، يشن العدو الصهيوني عدوانا مدمرا على قطاع غزة، خلّف في حصيلة غير نهائية، أكثر من 23 ألف شهيد، و59 ألف مصاب، أكثر من 70 في المائة منهم نساء وأطفال، وأكثر من سبعة آلاف شخص في عداد المفقودين تحت الأنقاض، إضافة إلى دمار هائل في البنية التحتية وكارثة صحية وإنسانية غير مسبوقة.

سبأ