ليلى عماشا*

 

جنين.. يرتبط الاسم في بالنا وقلوبنا بسيل من صور: حصار المخيم، الأرض المحروقة، السلاح “الفردي” ضدّ جيش مدجّج، الاشتباك، الأسود.. يختصر الاسم فلسطين ويتخذ ملامح الفدائي الذي لا يُضام، يقاتل منذ أن تلامس قامته طول البندقية، ويظلّ مقاتلًا حتى يُستشهد.

جُن جنونه يا جنين.. تقول الأنشودة الفلسطينية، وبالفعل، لا يمكن توصيف ما جرى بالأمس في جنين سوى بحالة جنون متوحّش: اجتاح العدو جنين، حاصر مستشفياتها ومنع الوصول إليها، اعتقل المصابين.. جُن جنونه من شبّان لا يكفّون عن القتال.. يؤلمونه في كلّ حركة لهم، ويوجعه أنّه رغم إحكام سيطرته على أرضهم، لا يستطيع إلى إخماد ثورتهم سبيلًا.

لطالما شكّلت جنين بالنسبة للعدو عقدة لا يجد لها حلًّا.. كل مفارقها محاور قتال.. كلّ أولادها عسكر مقاتل، وكلّهم على الأرض مشتبكون حتى آخر قطرة دم، حتى آخر ضحكة تهزأ بالاحتلال وتوصي البقيّة أن “ما تتركوا البارودة” بصوت أسد شهيد يُدعى إبراهيم النابلسي.

في جنين، كما في سائر مدن وقرى الضفّة الغربية، المقاومون يبدعون بدون سلاح نوعيّ سوى أرواحهم، وهم مصداق “الروح هي لي بتقاتل”. هناك، للحجر وللسكين ولبندقية “الكارلو” ولكلّ طلقة قيمة تفوق المعقول في كل الحسابات. يشغلون بال الجيش العدوّ في كلّ لحظة، حتى حين يبدو وكأنهم خفتوا، يعلم عدوّهم أنه في أي ثانية سيتلقى ضربة.. ولشدّة غروره المقترن بانعدام القدرة على التعلّم من التجارب، لا يكفّ عن محاولة كسر أنف المدينة المحاربة، ومخيّمها الذي صار بطلًا يحمل شخصية فدائي ملثّم يحاصر كيان الاحتلال بطلقات قليلة.. قل حتى آخر طلقات بندقيّته، وينتصر. حتمًا ينتصر! هل يُهزَم مشتبك في ساحة حق؟!

حتى الساعة، تتواصل الأخبار من جنين: اشتباكات بين المقاومين وجيش الاحتلال على مختلف المحاور، اقتحام المدينة وهو الأكبر منذ بداية معركة طوفان الأقصى، حصار المخيّم من جهاته الأربع واعلانه منطقة عسكرية، حصار جميع المستشفيات في المدينة ومنع سيارات الإسعاف من دخول مناطق الاشتباكات، اعتقال مصابين تقلّهم هذه السيارات، غارات بالمسيّرات على المخيّم، قصف المنازل بالقذائف أو اقتحامها، اعتقالات… وكما أخبار العدوان، كذلك تتوالى أخبار المقاومة والتصدّي واستهداف الآليات بالعبوات الناسفة والاشتباكات والإلتحامات مع جنود العدو، استهداف التعزيزات العسكرية للعدوّ بالرصاص .. حرفيًّا، في كلّ الضفة وبشكل خاص في جنين، يمارس العدو همجيّته كلّها ويتصدّى لها الفلسطينيون بكلّ ما يمتلكون: رصاص قليل وأرواح تتفوّق في عدّتها القتالية..

وبذلك، كما غزّة، تُسقط جنين وكلّ الضفّة الحجّة عن كلّ من يسوّق للخيارات الانهزامية تحت عنوان صعوبة القتال ومرارة المواجهة بالصدور العارية ومن تحت الحصار.. وبذلك أيضًا، تُبقي فلسطين قلبنا فيها وعيوننا عليها، فلا تأخذنا الهدنة التي يخرقها الصهاينة بين الحين والآخر إلى غرق في أيّة تفاصيل، تبقينا فيها، وهي البوصلة والطريق!

* المصدر: موقع العهد الاخباري

* المقالة نعبر عن وجهة نظر الكاتب