ماذا تحتاج المقاومة الفلسطينية لتحوّل التهديد إلى فرصة؟
أحمد عبد الرحمن*
لا يختلف عاقلان على مبدأ أن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة تواجه منذ 25 يوماً أخطر تحدٍ خلال تاريخها الحديث؛ هذا التاريخ الذي بدأ منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، حيث التحوّل الكبير الذي طرأ على نوع وشكل عمل المقاومة، والتطوّر النوعي الذي شهدته، سواء على صعيد الخبرات القتالية أو على صعيد الإمكانات التسليحية، والتي تنامت منذ ذلك الحين لتصل بعد عام 2010 إلى أعلى مستوياتها، ولا سيما على مستوى القوة الصاروخية والأسلحة المضادة للدروع ومضادات الطيران وأسلحة القنص المختلفة التي كان للجمهورية الإسلامية في إيران الفضل بعد الله في إيصالها إلى قطاع غزة وتدريب المقاتلين وتجهيزهم للتعامل معها.
هذا التحدّي الذي يأتي نتيجة للعدوان الإسرائيلي المستمر والمتصاعد ضد كل مكونات الشعب الفلسطيني في القطاع المحاصر، والذي نتج منه حتى كتابة هذا المقال أكثر من 10 آلاف شهيد، ونحو 2000 مفقود، إضافة إلى أكثر من 25 ألف مصاب وجريح، من بينهم عدد كبير من ذوي الإصابات الحرجة والقاتلة، يضع المقاومة الفلسطينية أمام خيارين لا ثالث لهما، وهما يكادان يكونان حاسمين؛ إما لجهة تحقيق انتصار حاسم قد يساهم في تغيير مجرى تاريخ المنطقة، وإما لا سمح الله تلقّي هزيمة قاسية ومؤلمة قد تدفع العدو الصهيوني نحو تكرار هذه التجربة في جبهات أخرى تأتي على رأسها الجبهة اللبنانية التي تشكّل تحدّياً مستداماً لـ”الدولة” العبرية، والتي تضعها “إسرائيل” على رأس سلم أولوياتها في كل الأوقات، وتنتظر فرصة سانحة للقيام بهذا الأمر وحسم المسألة بشكل نهائي.
ولا نجد حرجاً عندما نقول إن الحسابات المادية المعتمدة على القوة العسكرية والقدرات القتالية والدعم المفتوح وغير المشروط الذي تقدّمه الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها قد يمنحان الكيان الصهيوني أفضلية كبيرة في حسم المعركة المحتدمة في قطاع غزة لمصلحته، إذ إنه يملك قوة تدميرية هائلة، مدعومة بقوات أميركية لا تقدم فقط النصح والمشورة، بل تذهب أبعد من ذلك إلى مشاركة حقيقية في القتال، لا سيما على صعيد سلاح الجو الذي يقوم بأكثر من 70% من الأعمال القتالية.
هذا التفوّق الذي يترجمه استخدام العدو أكثر من 350 طائرة حربية تلقي بحممها فوق رؤوس الأطفال والنساء، ونحو 400 دبابة بدأت منذ أيام هجوماً برياً على الأطراف الغربية الشمالية والشرقية الشمالية للقطاع، إضافة إلى جنوب مدينة غزة، يساندها أكثر من 350 ألف جندي من مختلف الوحدات، قد يدفع الكثير من المحللين العسكريين إلى الاعتقاد بحتمية تمكّن القوات الإسرائيلية من حسم المسألة عسكرياً خلال مدة زمنية معينة قد تطول من وجهة نظر بعضهم، وقد تكون قصيرة وسريعة من وجهة نظر الطرف الآخر.
في مقابل كل ذلك، تقف المقاومة الفلسطينية شبه وحيدة تقاتل دفاعاً عن أرضها وشعبها بما تملكه من إمكانيات عسكرية لا تكاد تُذكر أمام الترسانة الحربية لعدّوها، تساندها جبهة شمالية تعمل بنسق منخفض نوعاً ما نتيجة ظروف معينة، وجبهات أخرى تقدّم الواجب على الإمكان، كأنصار الله في اليمن العزيز والمقاومة العراقية الحرّة والشريفة.
هذه المقاومة البطلة والعنيدة، رغم قلة إمكاناتها والحصار الذي تتعرض له منذ أكثر من 16 عاماً، والتي يتآمر عليها القريب والبعيد لكسرها وذبحها والقضاء عليها، يمكن لها أن تجترح المستحيل، وتحقق المعجزات، وتكرر ما قامت به في فجر السابع من تشرين الأول/أكتوبر، إذ ألحقت بقوات العدو هزيمة قاسية لا نكاد نجد لها مثيلاً في عصرنا الحديث، وهذا ما يحتاج منها تحويل التهديد بالقتل والذبح والإبادة إلى فرصة لإفشال مخططات العدو، وكسر موجته الهجومية، وتكبيده خسائر فادحة قد تدفعه إلى التراجع والاندحار، والجلوس لاحقاً رغماً عن أنفه ليدفع ثمن جرائمه المتواصلة منذ 75 عاماً بحق شعبنا الفلسطيني المظلوم، وفي المقدمة منه الإفراج عن الأسرى الأبطال الذين أمضى بعضهم أكثر من 40 عاماً خلف قضبان السجن، إضافة إلى رفع الحصار الظالم وإعادة إعمار أكثر من 200 ألف وحدة سكنية دمّرها على رؤوس ساكنيها حتى اليوم.
ومن أجل أن تنجح المقاومة في مسعاها هذا، مطلوب منها ومن حلفائها توفير بعض المتطلّبات المهمة التي لا يمكن الاستغناء عنها في أي حال من الأحوال، ومنها:
أولاً: توفير غطاء سياسي وقانون وإعلامي لعمل المقاومة، وهو الأمر الذي يتطلّب من الدول الحليفة والصديقة جهداً أكبر وعملاً أوسع، إذ إن العدو يملك شبكة علاقات دولية هائلة، تقف على رأسها أكبر دولة في العالم، إلى جانبها عدد من الدول التي كانت في يوم من الأيام عظمى كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وهذا ما يوفر لـ”دولة” العدو مظلة حماية يعتمد عليها لتنفيذ جرائم كبرى ضد المدنيين الآمنين، كما حدث عصر الثلاثاء في مخيم جباليا، وما سبقه من مجزرة ضد المدنيين الذين لاذوا بحرم المستشفى الأهلي “المعمداني” وسط مدينة غزة.
وبناء عليه، تحتاج المقاومة إلى شبكة حماية قانونية وسياسية تؤمّن لها مزيداً من الدعم على المستويات كافة، وتدافع عنها في المؤسسات الأممية والدولية، وتكشف زيف ادعاءات الاحتلال التي تزوّر وتكذب وتلقي مسؤولية كل جرائمها على المقاومة.
هذا الأمر بحاجة إلى توسيع قاعدة التحالفات، ولا سيما مع دول صديقة مثل روسيا والصين، إضافة إلى دول محور المقاومة التي تملك موقفاً ثابتاً لا يتغير من القضية الفلسطينية، ومن حق الشعب الفلسطيني الدفاع عن نفسه بكل الطرق والوسائل التي كفلتها كل الشرائع السماوية والوضعية لاستعادة حقوقه واسترداد أراضيه، إضافة إلى الدعم الإعلامي المتواصل الذي يعدّ أمراً ضرورياً لمواجهة الرواية الصهيونية والأميركية الكاذبة التي تحظى بشبكة واسعة من القنوات التلفزيونية العالمية والمؤسسات الإعلامية العملاقة ذات التأثير الهائل.
ثانياً: التحركات الشعبية الواسعة عربياً وعالمياً، إذ إن زيادة حجم التحركات الشعبية المندّدة بالعدوان، والداعمة لحق الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، والداعية إلى سرعة تحرّك الحكّام والأنظمة من أجل إيقاف جرائم القتل والذبح التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني البطل، من شأنها تشكيل حركة ضغط هائلة ومؤثرة في “دولة” الكيان وفي داعميها ومموليها، وقد تساهم في لحظة ما في دفع العدو إلى وقف عدوانه أو على أقل تقدير الحد من تداعياته، بما يحفظ الأرواح ويحافظ على الممتلكات.
وقد رأينا حجم المسيرات الشعبية في كثير من الدول العربية والإسلامية، مثل اليمن وإيران والأردن والجزائر، وعدد من الدول الأوربية، كفرنسا وبريطانيا وغيرهما، والتي كان لها تأثير معنوي هائل في عموم الشعب الفلسطيني، وبالتحديد في قطاع غزة، والتي يمكن أن تكون، في حال استمرارها بشكل يومي، واتساع رقعتها الجغرافية لتشمل بلداناً أكثر، ذات تأثير كبير لناحية توقف العدوان.
ثالثاً: فتح المزيد من جبهات القتال، إذ إنَّ أكثر السيناريوهات رعباً لكيان الاحتلال هو القتال على جبهات متعددة، وهو الأمر الذي كان العديد من الخبراء والمختصين الصهاينة يحذرون منه خلال العامين الأخيرين، ولا سيما على صعيد الجبهة الشمالية التي تملك إمكانيات عسكرية هائلة يمكن أن تغير شكل المعركة وتذهب بها في اتجاه آخر مغاير تماماً لما هي عليه الحال اليوم.
نحن نعتقد أنَّ ارتفاع نسق القتال الدائر على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، والذي شكّل خلال الأسابيع الثلاثة الماضية ضغطاً هائلاً على القوات الإسرائيلية أدى إلى تشتيت جهدها وإرهاق غرف عملياتها، يمكن أن يؤدي إلى وقف الحرب على وجه السرعة، إذ إنَّ دخول حزب الله المواجهة الدائرة بشكل أوسع وأكثر قوة كفيل بضرب الجهود الإسرائيلية بالاستفراد بقطاع غزة في مقتل، وخصوصاً أن الحزب باستطاعته فتح جبهة متكاملة الأركان تؤدي في بعض تداعياتها إلى استنزاف القدرات الإسرائيلية وإشغال جبهة العدو الداخلية، بما يضعها بين فكّي كماشة من الجنوب والشمال.
إضافة إلى الجبهة الشمالية، يمكن لتوسّع نطاق عمليات القصف من قِبل أنصار الله في اليمن، كما وعد العميد يحيى سريع الناطق العسكري في مؤتمره الصحافي يوم الثلاثاء، أن يؤدي إلى تشكيل ضغط إضافي على قوات العدو، ولا سيما أن القصف يمكن أن يستهدف مدينة إيلات وميناءها الاستراتيجي الذي يُعتبر المنفذ الوحيد لـ”الدولة” العبرية على البحر الأحمر وصولاً إلى المحيط الهندي، مع عدم إغفال ساحة مهمة أخرى هي الساحة العراقية، التي كانت منذ البداية فاعلاً أساسياً من خلال توجيه العديد من الضربات الصاروخية، وبالطائرات المسيرة، ضد القواعد الأميركية في العراق وسوريا، والتي تجاوزت بحسب الاعتراف الأميركي 25 عملية، مع إمكانية توسيع عمليات القصف لتصل إلى المدن الصهيونية التي لا تبعد عن الأراضي العراقية سوى 700 كلم.
ختاماً، نقول إن توافر هذه الظروف، إلى جانب ارتفاع وتيرة التنسيق بين فصائل المقاومة الفلسطينية وباقي أطراف محور المقاومة في الإقليم، إضافة إلى زيادة الجهود المبذولة على كل المستويات القانونية والسياسية والشعبية، يمكن أن يمنح المقاومة مزيداً من الخيارات والأدوات التي تمكّنها من استغلال قدراتها بالطريقة المثلى، وتمنحها مزيداً من الوسائل التي يمكن أن تكون حاسمة لناحية حسم المعركة القائمة لمصلحتها.
يبدو أن هذه المعركة ستكون طويلة وقاسية نتيجة تمترس العدو خلف مواقفه المتشددة التي يسعى من ورائها لترميم صورة الردع التي انهارت أمام عنفوان المجاهدين وبأسهم في معركة “طوفان الأقصى” التاريخية.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب