الأثر الديني في إصدارات الإعلام الحربي
محمد جرادات*
ختم الإعلام الحربي لحزب الله مشهدية ذكرى انتصار تموز، بقوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ}، وهو إصدار حمل عنوان “لا غالب لكم” يحاكي اقتحام الجليل الفلسطيني، وهو ما ظهر في الإصدار الأخير لكتيبة جنين، وخصوصاً ما تكرر على لسان شهيدها المهندس علي الغول، وهو يبتسم بشغف خلال تصنيعه العبوات الناسفة، موجهاً قوله إلى المحتل الإسرائيلي: “الله مولانا ولا مولى لكم”.
خطاب دينيّ غير كهنوتي، يغص بالحياة على طريقة الشهداء، مفعم بأمل الانتصار، بين رحى شواظ ونحاس. يبتسم عليّ وهو يسارع في تجهيز المزيد من عبوات بأس جنين؛ بأس الأحرار الممتد من غار حراء، حيث نطق الوحي أول كلمات الخلود، حتى اكتمل تنزّله منذ قرون خلت. وقد ظهر هذا الاكتمال بصورة مصحف تتفتح صفحاته في إصدار الإعلام الحربي، ورجال الله يقتحمون الجليل أو يتهيؤون لهذا الاقتحام.
لمّا كان يوم أحدٍ، وجراح رسول الله غائرة، أشرف أبو سفيان على بقية المسلمين، وقد استحكموا في أعلى الجبل، وهو يصرخ: اعْل هبلٌ! اعْل هبلٌ! فقال رسول الله (ص): “أجيبوه”، فقالوا: ما نقول؟، قال: “قولوا: الله أعلى وأجلّ”، فقال أبو سفيان: ألا لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال رسول الله: “أجيبوه”. قالوا: ما نقول؟ قال: “قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم”.
استحضار الولاء مع الله والبراء من الشرك مفهوم عقديّ دقيق أعمق تجليات ظهوره العملي وقت الحرب، عندما تدلهمّ الخطوب، وتقرقع الأسلحة، وتتدافع أنفاس الرجال. هنا محط الولاية، ولاية تنسم عبقها هذا العليّ الفلسطيني في أزقة مخيم جنين، وتركها وصية للجيل المتحفز لاقتلاع باب خيبر المعاصرة في وعي جمعيّ حسيّ تلتحم فيه المعاني الدينية لتجهيز السرايا والكتائب ولا اسم تبتدئ به اقتحامها المبارك إلا اسم واحد لا شريك له، هو اسم الله.
“تقدموا باسم الله إلى الأمام”. كلمات خطّها رجال حفروا نفقاً لمحاكاة الاقتحام من بنت جبيل أو مار إلياس أو هي أيّ أرض جنوبية. بضع كلمات أبصرتها عيونهم، ثم أخذت ترنو لتتكحل برؤية جمال الهضاب والوديان الفلسطينية تتلألأ بعد طول انتظار، ووقع أقدامهم أخذ يخطو للصعود؛ صعود من النفق، صعود باسم الله إلى الأمام، صعود لا رجعة فيها خطوة إلى الخلف، فقد تم باسم الله، وكل خطوة إلى الخلف فرار يوم الزحف بحكم الله الذي به وحده نتقدم، أو هكذا أراد الإعلام الحربي أن يطلق حافز التحرير في صدور أهل الله.
“إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض”. إنه حديث نبوي حرص الإعلام الحربي في كتيبة جنين على أن ينشره في الأيام الأخيرة عقب انتصار “بأس جنين”، وهو حديث يتجاوز مداعبة مخيلة فتية جنين الروحية لما هو تأصيل وتذكير؛ تأصيل النفسية الميدانية لجيل الكتيبة وجمهورها بما هو أصل القضية ومنتهى الرجاء بنيل الدرجات العلى في الجنة، بعيداً من عالم الفناء الدنيوي، وتذكير لجنين غداة بأسها المقدس بأن كل انتصار هو في سبيل الله، لا لأجل سلطة ولا جاه.
منذ بواكير تأسيس الكتيبة، أطلقت أنشودتها التي تؤكد فيها أنها تقاتل لله لا لسلطة ولا ابتغاء جاه، وهي هنا تتجاوز كل مفاعيل السياسة والصراعات الحزبية وحسابات السلطة والمعارضة، وتسبح عكس التيار؛ تيار الانقسام أو اقتسام الكعكة المسمومة على حساب عرق الفقراء ودماء الشهداء.
لذا بدت سلطة أوسلو معزولة وهي تبرر اعتقالها عدداً من شباب الكتيبة التي لا تنازعها أصل مشروعها في إدارة الحكم، لتظهر هذه السلطة في اعتقالاتها شريكاً في العدوان.
يمتد عمق الخطاب الديني على امتداد الإعلام الحربي لمحور المقاومة، أفقياً وعمودياً، مع استثناء الحالة السورية الرسمية ربما، وهو امتداد طبيعي باعتبار ما للمحور من انتماء إسلاميّ فكريّ وتاريخيّ، بصرف النظر عن السياق المذهبي، سواء في إيران أو اليمن أو العراق، حتى لبنان وفلسطين، وهو انتماء متصل بالجذور التأسيسية لخط الإمام الخميني أو السيد الصدر أو السيد الحوثي أو المرجعية الإسلامية السنية الحركية لحماس والجهاد، من حسن البنا وسيد قطب وفتحي يكن إلى الشهيدين فتحي الشقاقي وأحمد ياسين.
يتجاوز هذا العمق الإسلامي في الإعلام الحربي الطابع الدعائي أو حتى التعبوي التربوي لما هو التلبّس الكامل بين الأصالة الدينية والفعل المتحرك في الإصدار، سواء كان طابعه إنشاديّاً أو عسكرياً ميدانياً، وهو يؤدي رسالة تستقر فكرتها في العقل قبل الفؤاد، في نمط التفكير قبل الشعور، بما يدوم أثره ويشحن المجاهدين بالقناعة التامة، فضلاً عن العاطفة الواعية.
وعندما يأتي الاقتباس الديني مفعماً بعامل القوة العسكرية، وليس الاستعداد للتضحية فحسب، على أهميته، يمكن لإصدار واحد من الإعلام الحربي لحزب الله أن يشحن الميدان العسكري باتجاهين؛ داخلي بما يشبه النفير الجهادي، وخارجيّ نحو ساحة العدو، وهي ساحة تندفع نحو مناورات عسكرية واسعة لمجرد ظهور إصدار يرسم معالم ميدان مشتعل، يفهمه الإسرائيلي أو يحس بلسعته وفق مستوى جديته، وهو معمّد بهيبة التاريخ وأوجاع الواقع.
* المصدر: الميادين نت
* المقال الصحفي يعبر عن وجه نظر الكاتب فقط