نحو رؤية جديدة لنظام إقليمي أكثر فاعلية
حسن نافعة*
طرأت في الآونة الأخيرة تغييرات دولية وإقليمية جوهرية من شأنها إتاحة فرصة جديدة أمام إمكانية إحياء النظام الإقليمي العربي، وتزويده بالوسائل والأدوات الضرورية التي تمكنه من استعادة حيويته وفاعليته على المسرح الدولي.
حين تأسست جامعة الدول العربية عام 1945، لم يكن عدد الدول العربية التي تتمتع باستقلال نسبي يؤهلها لعضوية هذه المنظمة يتجاوز في ذلك الوقت 7 دول، وكان لفلسطين وضع خاص، نظراً إلى وقوعها تحت سلطة انتداب بريطاني مفوض من جانب “عصبة الأمم” لمساعدة الحركة الصهيونية على إقامة “وطن قومي” لليهود في هذا القطر العربي تحديداً.
ومن هنا، تضمين ميثاق الجامعة العربية نصوصاً وملاحق تؤكد عروبة فلسطين من ناحية، والتزام الجامعة العربية، من ناحية أخرى، بمساعدة الشعوب العربية الواقعة تحت نير الاستعمار ومنها الشعب الفلسطيني لنيل حريتها واستقلالها.
معنى ذلك أن جامعة الدول العربية تأسست لتحقيق هدفين رئيسيين، الأول: تدعيم الروابط القائمة بين الشعوب العربية والعمل على تمكين دولها من إقامة شكل ما من أشكال الوحدة السياسية فيما بينها، والثاني: بلورة رؤية عربية قادرة على التعامل بفاعلية مع التحديات المشتركة، وفي مقدمتها التحديات التي يطرحها مشروع صهيوني يستهدف اغتصاب فلسطين.
اليوم، وبعد مرور 78 عاماً على تأسيس جامعة الدول العربية، يبدو العالم العربي أكثر انقساماً وتشرذماً، فيما تبدو “الدولة اليهودية” التي نجحت الحركة الصهيونية في غرسها في قلبه أكثر قوة وتحدياً مما كانت عليه في أي وقت مضى، ما يطرح تساؤلات عدة بشأن حقيقة وأسباب ما جرى للعالم العربي وفيه خلال هذه الفترة، وطبيعة العِبَر والدروس المستفادة منه.
صحيح أن الدول العربية المؤسسة لجامعة الدول العربية كان لديها ما يكفي من وضوح الرؤية ومن وحدة المواقف والأهداف لدفعها نحو رفض مشروع التقسيم حين عرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، بل وللدخول في حرب بمجرد إعلان قيام “دولة إسرائيل” عام 1948، غير أن النتائج الكارثية التي أسفرت عنها تلك الحرب أثبتت أن المجتمعات والدول العربية القائمة في ذلك الوقت تواجه مشكلات بنيوية تتطلب تغييرات جوهرية في طبيعة أنظمتها الحاكمة، وهو ما حدث بالفعل، ولكن عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية. لذا، ولد من رحم “النكبة” نظام إقليمي عربي جديد سعى لتحقيق الأهداف القديمة نفسها بأساليب وأدوات أكثر ثورية.
وفي سياق الظروف والملابسات التي أفضت إلى العدوان الثلاثي عام 1956، تأكدت قيادة مصر الناصرية لهذا النظام الذي بدا أكثر إصراراً على تحقيق الوحدة العربية والتصدي للمشروع الصهيوني. ورغم تمكنه من تحقيق إنجازات ضخمة، بلغت ذروتها مع إعلان قيام وحدة اندماجية بين مصر وسوريا عام 1958، فإن النظام الإقليمي العربي الجديد ما لبث أن أصيب بصدع كبير عندما عجز عن مواجهة كيان “إسرائيل” التي تمكنت من إلحاق هزيمة كبرى بجيوش ثلاث دول عربية إبان حرب 1967، كاشفاً مرة أخرى عن مواطن خلل أكثر عمقاً.
صحيح أن التغييرات العميقة التي أحدثها عبد الناصر في نظام الحكم في مصر عقب حرب 67 أسهمت في صنع الإنجاز العسكري الكبير الذي تحقق في حرب 1973، بيد أن السياسات التي انتهجها السادات عقب هذه الحرب أدت إلى سحب النظام العربي كله نحو هاوية سحيقة، خاصة بعد قرار زيارة القدس والتي أدت إلى إبرام معاهدة “سلام” منفردة مع “إسرائيل”، بدأ النظام الإقليمي العربي يتفكك في أعقابها إلى أن انهار تماماً في ما بعد.
لم يكن السادات، للإنصاف، هو وحده من تسبب في هذا التفكك، وإنما لحق به قادة عرب آخرون في مقدمتهم صدام حسين الذي أقدم على شن حرب على إيران في بداية الثمانينيات، أعقبها بحرب أخرى على الكويت في بداية التسعينيات، ما أتاح فرصة ذهبية أمام الولايات المتحدة لتحجيم دور العراق، ثم لاحتلاله وتدميره بعد ذلك، بل وفتح الطريق أمام دول عربية كثيرة للانخراط في التسويات المنفردة مع “إسرائيل” بدليل إقدام السلطة الفلسطينية على إبرام اتفاق “أوسلو” عام 1993، وإقدام الأردن على إبرام اتفاق “وادي عربة” عام 1994.
صحيح أن “ثورات الربيع العربي” التي انطلقت شرارتها من تونس في نهاية عام 2010 شكلت فرصة لتصحيح مسار النظام الإقليمي العربي، لكن تحالف الأنظمة الحاكمة في دول الخليج مع القوى الرافضة للتغيير في دول “الربيع العربي” أجهض هذه الفرصة، بل ومهد الطريق لاحقاً نحو إقدام عدد من الدول العربية على إبرام اتفاقيات “أبراهام” التي جسدت حالة الانفراط التام لعقد النظام العربي.
رغم ذلك كله، طرأت في الآونة الأخيرة تغييرات دولية وإقليمية جوهرية من شأنها إتاحة فرصة جديدة أمام إمكانية إحياء النظام الإقليمي العربي، وتزويده بالوسائل والأدوات الضرورية التي تمكنه من استعادة حيويته وفاعليته على المسرح الدولي.
فعلى الصعيد الدولي، بدأت مكانة الولايات المتحدة التي تهيمن على النظام العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي تتراجع لصالح قوى دولية أخرى تطمح للمشاركة في إدارة هذا النظام، ما يعني أن النظام العالمي يمر حالياً بمرحلة انتقالية تدفعه إلى التحول من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب.
ولأن الولايات المتحدة وحلفاءها لعبوا على الدوام دوراً مناهضاً للنظام الإقليمي العربي ومعرقلاً لتطوره، يتوقع أن يكون النظام الدولي متعدد القطبية أكثر مواءمة وتفهماً لطموحات النظام الإقليمي العربي، وبالتالي أكثر استعداداً لمدّه بالوسائل والأدوات التي تساعده على التطور والازدهار، خصوصاً أن القوى الطامحة للمشاركة في إدارة النظام الدولي تبدو أقل ارتباطاً بالمصالح الصهيونية أو خضوعاً لها، وبالتالي أكثر استعداداً لتبادل المنافع والمصالح مع العالم العربي.
أما على الصعيد الإقليمي فيلاحظ أن النظام الشرق أوسطي يشهد بدوره تحولات عميقة، تعكس نفسها في تصاعد دور ونفوذ كل من إيران وتركيا، من ناحية، وفي ابتعاد المملكة العربية السعودية رويداً رويداً عن الدوران في فلك السياسة الأميركية، من ناحية أخرى، وهي تحولات تبدو في تقديري غير مسبوقة في تاريخ الشرق الأوسط.
فقد ظلت تركيا وإيران تدوران في فلك السياسة الأميركية طوال العقود الثلاثة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وانخرطتا معاً في قائمة الدول المؤسسة لحلف بغداد، والذي دخل في صدام عنيف مع النظام الإقليمي العربي في مرحلة تطوره الثورية بقيادة مصر الناصرية. وعندما أصبحت إيران دولة ثورية مناهضة للمشروع الأميركي-الصهيوني في المنطقة عقب نجاح الثورة الإسلامية فيها في نهاية السبعينيات، ظلت تركيا مرتبطة رسمياً بهذا المشروع لفترة طويلة لاحقة قبل أن تتمكن من تغيير سياساتها عقب وصول حزب “العدالة والتنمية” بقيادة إردوغان إلى السلطة في بداية القرن الواحد والعشرين.
صحيح أن تركيا ما تزال مرتبطة رسمياً بالسياسة الأميركية في المنطقة، بوصفها عضواً مهماً في حلف “الناتو” غير أن الشواهد الدالة على ابتعادها عن الدوران في الفلك الأميركي كثيرة.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم دخول الصين كلاعب سياسي رئيسي على الساحة الشرق أوسطية، وهو ما تجلى بوضوح من خلال الاتفاق الذي أبرم تحت رعايتها بين السعودية وإيران، لتبيّن لنا بوضوح أن الساحة الشرق أوسطية تشهد تطورات لا تصب في صالح استمرار الهيمنة الأميركية المنفردة على النظام الدولي ولا في صالح المشروع الأميركي -الصهيوني الذي يستهدف تمكين “إسرائيل” من الهيمنة المنفردة على منطقة الشرق الأوسط.
أخلص من كل ما تقدم إلى نتيجة رئيسية مفادها أن التحولات الجارية على الصعيدين العالمي والشرق أوسطي تضغط، من ناحية، في اتجاه التأسيس لنظام دولي متعدد القطبية، وتتيح فرصة ثمينة لإعادة إحياء النظام العربي على أسس جديدة، من ناحية أخرى. وفي تقديري، أن المملكة العربية السعودية باتت مؤهلة لقيادة النظام الإقليمي العربي في حلة تطوره الراهنة، إن هي سعت لاغتنام الفرصة المتاحة، لكن ذلك يبدو متوقفاً على توافر إرادة حقيقية لديها للقيام بهذا الدور، والذي يتطلب حسن القيام به توافر شروط ثلاثة يمكن عرضها على النحو التالي:
أولاً: تخلي السعودية نهائياً عن فكرة الالتحاق باتفاقيات “أبراهام”، وطرح رؤية بديلة لإدارة الصراع العربي- الصهيوني ترتكز، من ناحية، على تقديم الدعم الكامل للمقاومة الفلسطينية المسلحة باعتبارها حقاً يقرّه القانون الدولي للشعوب الواقعة تحت الاحتلال، كما ترتكز، من ناحية أخرى، على ربط التطبيع بالتزام كيان “إسرائيل” بإنهاء احتلالها لجميع الأراضي العربية المحتلة، بما فيها الجولان، وقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67، أو بتعهدها رسمياً بإقامة دولة موحدة على أرض فلسطين التاريخية تنهي نظام الأبارتيد وتستبدله بنظام ديمقراطي يشارك فيه الفلسطينيون كمواطنين يتمتعون بكامل الحقوق السياسية والمدنية.
ثانياً: طرح رؤية متفق عليها لإصلاح جامعة الدول العربية، تتضمن إقامة مؤسسات فاعلة قادرة على تسوية المنازعات العربية، من ناحية، وإطلاق تجربة للتكامل الاقتصادي العربي قابلة للتطبيق على أرض الواقع، من ناحية أخرى.
ثالثاً: ربط النظام الإقليمي العربي مؤسسياً بكل من تركيا وإيران، وبما يضمن التشاور الجماعي والمستمر بين العرب والفرس والأتراك من أجل التغلب على أي خلافات تطرأ بينهم ولإقامة بنية مشتركة ومستقلة للأمن الإقليمي، وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال منح كل منهما صفة العضو المراقب في جامعة الدول العربية.
فهل بمقدور السعودية أن تنهض بأعباء هذه القيادة، سواء بمفردها أو بالتنسيق مع دول عربية أخرى؟ هذا سؤال ينبغي للمفكرين وصناع القرار في العالم العربي طرحه ومحاولة تقديم إجابة علمية مقنعة عنه.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع