خياراتُ المملكة في اليمن
عبدالرحمن مراد*
لا نظن عرب الصحراء يدركون حركة الواقع ولا حتى تموجه، فهم قد وهبوا أنفسهم للمشروع الصهيوني وأصبحوا أدواته التي تحَرّكها المصالح والاستراتيجيات في ظل حالة غير مدركة لحجم الكارثة التي تنتظر الأعراب قبل غيرهم في منطقة الجزيرة العربية، فالأعراب في الجزيرة والخليج لا مصلحة لهم في هذا العدوان الذي تشنه طائراتهم وبوارجهم، المصلحة الحقيقية هي لإسرائيل والدول الاستعمارية، ومن الغباء أن يصل العالم المستعمر من حولنا إلى مصالحه بأموال العرب وبدمائهم، وهم هناك يشربون نخب الانتصار الذي نهديه إليهم دون أن ينفقوا سنتاً واحداً، بل تحَرّكت عجلة الاقتصاد في بلدانهم، وتجاوزوا أزماتهم المالية من خلال النشاط المحموم للأعراب في شراء الأسلحة المتنوعة.
ولذلك منذ بدأت الاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط مطلع عام 2011م وحتى اليوم لم نعد نسمع بركود الاقتصاد العالمي، ولا بشلله الجزئي، أَو الكلي، ولا بتردي الأوضاع في المجتمعات التي تسعى إلى فرض هيمنتها ووصايتها على مقدرات العالم من حولها، وتديره وفق قاعدة المصلحة العائدة إليها، لا وفق مصالح الشعوب، وهي بمثل ذلك تستبد الشعوب الضعيفة، وتعمل على تحديد مساراتها حتى تضمن استمرار تدفق المصالح والمنافع، في حين يذهب الأعراب إلى تبديد أموال الأُمَّــة، وتبديد الثروات الوطنية، والقومية في الصراعات البينية، وفي تنمية الذات المستبدة والطاغية، وفي تمجيد من لا مجد له، ولا قيمة ولا معنى، في عالم حضاري متموج وغير مستقر تتنازعه قوتان لا ثالث لهما هما: خيرية بوذا، أَو شرية يهوذا، في حين يظل العالم الإسلامي خارج النسق الحضاري، وخارج المنظومة الكونية؛ بسَببِ غياب المشروع السياسي الذي يحقّق الخيرية والنفعية في البعدين المادي والروحي للبشرية، ولذلك ظل الاشتغال الصهيوني الذي يركز على تفكيك المشروع الإسلامي في بعديه الإنساني والعقائدي، وبالتالي تعطيل المشروع، ليكون المشروع الصهيوني هو الأمثل والأقدر، وقد نجح إلى حَــدّ كبير في الوصول إلى مقاصده وغايته، فالفكرة الدينية والصراع الطائفي ديدن العرب الذين يدعون الإسلام، وقد غفلوا عن مشروعهم الإنساني الكبير، وضاعفوا من اشتغالهم على التدمير والقتل والدمار، وهدم المقومات الحضارية والتاريخية، وتفكيك الهُــوِيَّات بغبائهم وبأموالهم، وخرج علينا أعراب الخليج وهم يتفاخرون بما أحدثوه من دمار وقتل في اليمن وفي سوريا وفي العراق، وفي كُـلّ البلدان التي شكلت نواة يمكن التعويل عليها والانطلاق منها لمد جسور التواصل الثقافي مع المشكاة الإسلامية؛ لكي ترسلَ ضوؤها الحضاري للإنسانية.
ولم يدرك أُولئك الأعراب أن صحراويتَهم وبداوتهم لم تتجاوز بول الإبل ومعاطنها والمزابل، وما سوى ذلك لم يشهد العالم من حولنا -رغم الثراء والإمْكَانات- أيةَ ظاهرة حضارية، أَو يشهد قبساً يسهم في النفعية الإنسانية، فالحداثة عند الأعراب لم تكن إلا تطاولاً في البنيان، وترهلاً في الأجساد، وغباءً في الأذهان، وركوناً إلى ما عند الغير، وخمولاً يمنح العقل إجازات إضافية؛ ولذلك أمعنوا في عدوانهم على اليمن وزاد عنادهم في تجذير هزائمهم الأخلاقية والعقائدية والثقافية بل وقد وصل التيه بهم إلى الضياع.
لا نظن أن أثر العدوان على اليمن سيكون في مصالح دول الخليج بل سيكون وبالاً عليهم، وسيكون الأثر على السعوديّة أكثر بحكم الجوار، وربما ألقت الآثار نفسها على القانون الطبيعي، والبناءات الاجتماعية، فتصبح المملكة بعد زمن لن يطول خبراً في كتب التاريخ، وطللاً تبكيه الأحفاد، ودماءً قد يطيل آل سعود البكاء عليها وهم يتسكعون في أرصفة المدن الأُورُوبية كما تسكع من قبلهم آل الرشيد الذين نالهم الكثير من القتل والتشريد على يد ملوك آل سعود وكذلك هي سنن التاريخ والأيّام دول، ولا عزاء للمملكة بعد أن وصلت إلى التيه إلا مراجعة نفسها والاحتكام للمنطق والقبول بما يمليه العقل وفق قواعد الدين الإسلامي ومنطقه لا سواه.
فمن الغباء الظن أن سيناريو القرن الماضي الذي قادته المملكة في اليمن يمكن أن يتكرّر اليوم بعد كُـلّ الذي حدث من تدمير وفواجع وهلاك للنسل والزرع؛ لأَنَّ مجمل العوامل لم تعد مساندة لتكراره، فالمملكة في ذلك الزمن كانت في مرحلة اليفاع والشباب، واليوم في منازل الكهولة فالدول تشيخ كما دل قانون التاريخ، كما أن المملكة في الماضي لم تتدخل بصورة مباشرة بل كانت تدعم فصيلاً بالمال والسلاح، وكلّ اشتغالها كان سياسيًّا وإعلاميًّا ودبلوماسيًّا، أما اليوم فقد لامست ألسنة اللهب والعدوان كُـلّ قلب وكلّ عين، واليمني كما هي طبيعته في حقب التاريخ المختلفة لا يمكنه التفريط في كرامته وعرضه وأرضه، وَإذَا انتصر لرجل لن يتركه إلا والتاج على رأسه، وَإذَا قام على رجل لن يتركه إلا وقد استأصل شأفته، وقد تعددت الرؤى والأقاويل في مآثر الإنسان اليمني، وهي الآن تترجم نفسها في ميادين الشرف والقتال، وتكتب تاريخها الجديد التي يشكل امتداداً للتاريخ القديم.
ولذلك ليس أمام المملكة بعد كُـلّ هذا الزمن من العدوان والحصار إلا مراجعة حساباتها السياسية حتى لا تكون في مهب الريح، فأمريكا لن تكون ناصحاً أميناً، ولم تبلغ المملكة -طوال سنوات العدوان- ما كانت ترسمه مخيلتها، بل حدث العكس الذي لا ترغبه المملكة، ولذلك فالواقع اليوم يجبر المملكة على خيارين أحلاهما مرّ بالنسبة لها، وهما:
– الخيار الأول: الحوار والاعتراف بالذنوب والخطايا والجرائم الوحشية والاحتكام لقواعد الشريعة الإسلامية في مثل هذا القضايا دون اللجوء للقانون الدولي.
– والخيار الثاني: الاستمرار في الحرب، وهو خيار غير مناسب للمملكة لتداعياته الوخيمة عليها بعد كُـلّ هذه التطورات التي حدثت في العالم وفي المملكة نفسها.
وأمام هذين الخيارين تقف المملكة اليوم، ولا بدَّ لها من الموازنة بين الخيارين، الحرب أَو قبول شروط السلام وفق قواعد الشريعة الإسلامية التي تدَّعي الانتماءَ إليها حتى تحفظ ما تبقى لها من ماء الوجه.
* المصدر: صحيفة المسيرة