السياسية ـ وكالات:

خالف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التوقعات بأن تُنهي الانتخابات الرئاسية مشواره السياسي، بإعادة انتخابه مجددا امس الأحد 28 مايو/أيار لعهدة ثانية ستمدد حكمه المتواصل منذ عشرين عاما. وخلال العقدين اللذين قضاهما في السلطة، احتفظ أردوغان (69 عاما) بصورة الزعيم القوي الذي لا يقهر. عودة على المحطات الرئيسية في مسيرة أردوغان من سجنه عام 1999 بسبب قصيدة شعرية إلى منافسته للزعيم الأشهر مصطفى كمال أتاتورك الذي أسس تركيا الحديثة قبل قرن من الزمان… وصولا إلى فوزه بعهدة رئاسية ثالثة.

خلال اقتراع شهد تنافسا غير مسبوق، فاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان امس الأحد 28 مايو/أيار بولاية جديدة ليمدد حكمه المستمر منذ عقدين حتى عام 2028.

وواجه الزعيم البالغ 69 عاما، وهو نجل قبطان بحري، رياحا سياسية معاكسة خلال الانتخابات الرئاسية ببلاده، غذتها أزمة اقتصادية تعصف بالبلاد وتداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد في فبراير/شباط، لكنه استطاع على الرغم من ذلك الصمود والبقاء في السلطة لخمس سنوات مجددة… ليبقى سجله الانتخابي خاليا من الهزائم.

أسرة متدينة مناهضة للعلمانية
يتحدر أردوغان من بيئة متدينة مناهضة للعلمانية كما يحرص على تصدير أصوله الاجتماعية المتواصلة، بدأ تسلق سلم المناصب السياسية سنة 1994 عقب انتخابه رئيسا لبلدية إسطنبول قبل أن يتولى بعدها بتسع سنوات منصب رئاسة الوزراء الذي احتفظ به طوال 11 عام وانتهج خلاله سياسية اقتصادية نيو ليبرالية مكنت الاقتصاد التركي من تحقيق نسب نمو جيدة.

بعد تعديل الدستور عام 2011 بات أردوغان أول رئيس تركي ينتخب بالاقتراع العام. تعرض لمحاول انقلاب فاشلة في يونيو/حزيران 2026 فرض على إثرها حالة الطوارئ كما نفذ حملة اعتقالات واسعة لمعارضيه. وفي العام المتالي أقر ممارسة سياسية جديدة مكنته من الحكم عبر إصدار المراسيم، بالرغم من الانتقادات التي وجهت إليه على خلفية كارثة الزلزال في شباط/فبراير وتوقع تأثير ذلك سلبيا على شعبيته، حقق تقدما ملحوظا خلال الانتخابات الرئاسية بالمناطق المنكوبة، أمام خصمه كمال كليتشدار أوغلو.

من السجن إلى رئاسة تركيا
نشأ أردوغان في حي فقير بإسطنبول والتحق بمدرسة مهنية إسلامية، واشتغل بالعمل السياسي كزعيم للشباب في حزب محلي وشغل منصب رئيس بلدية إسطنبول في 1994.

وقضى فترة في السجن في عام 1999 بسبب قصيدة ألقاها عام 1997 شبّه فيها المساجد بالثكنات والمآذن بالخنادق والمؤمنين بالجيش.

وبعد أن شغل منصب رئيس حزب العدالة والتنمية، وتقلده رئاسة وزراء البلاد سنة 2003، نجحت حكومته في ترويض الجيش التركي الذي أطاح بأربع حكومات منذ عام 1960، وفي عام 2005 بدأ محادثات لتحقيق طموح استمر عقودا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وهي خطوة تعطلت لاحقا بشكل كبير.

ونظر الحلفاء الغربيون في البداية إلى تركيا بقيادة أردوغان على أنها مزيج حيوي من الإسلام والديمقراطية يمكن أن يكون نموذجا لدول الشرق الأوسط التي تكابد للتخلص من الاستبداد والركود.

لكن مساعيه لفرض سيطرة أكبر سببت حالة استقطاب في البلاد وأثارت قلق الشركاء الدوليين. واعتبر المؤيدون المتحمسون ذلك مجرد مكافأة لزعيم أعاد التعاليم الإسلامية إلى صميم الحياة العامة في تركيا ودافع عن الطبقات العاملة المتدينة. غير أن المعارضين اعتبروا ذلك إمعانا في الاستبداد.

ما بعد الانقلاب
بعد محاولة الانقلاب في 2016، شنت السلطات حملة على نطاق واسع، إذ احتجزت أكثر من 77 ألفا في انتظار المحاكمة وفصلت أو أوقفت عن العمل 150 ألف موظف حكومي. وتقول منظمات حقوقية إن تركيا صارت أكبر دولة تسجن الصحافيين في العالم لبعض الوقت.

وقالت حكومة أردوغان إن الحملة كانت نتيجة تهديدات من أنصار الانقلاب وكذلك تنظيم “الدولة الإسلامية” وحزب العمال الكردستاني.

على الصعيد الداخلي، يقف مجمع القصر الرئاسي الجديد مترامي الأطراف المقام على مشارف أنقرة كعلامة بارزة على سلطات أردوغان الجديدة، أما على الصعيد الخارجي فإن تركيا تستعرض قدراتها بشكل متزايد إذ تدخلت في سوريا والعراق وليبيا كما بدأت تصدر طائراتها المسيرة المصنعة محليا باعتبارها فخرا للصناعة العسكرية الوطنية.

“الحفاظ على ما تحقق”
ويحظى أردوغان بدعم واسع لدى الشرائح الأكثر فقرا وتلك الريفية من المجتمع التركي بسبب تشجيعه للحريات الدينية وتحديث المدن التي كانت متداعية في دواخل الأناضول.

ولقي إردوغان انتقادات بسبب حملات القمع التي مارسها على جزء من المعارضة وتبنيه سياسة خارجية مثيرة للجدل.

ويقيم علاقات شخصية جيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم تتأثر بالحرب على أوكرانيا.

ويستفيد الاقتصاد التركي المضطرب من تأجيل سداد واردات الطاقة الروسية، الأمر الذي ساعد أردوغان على الإنفاق بسخاء على تعهدات حملته هذا العام.

كما أخر عضوية فنلندا في حلف شمال الأطلسي (ناتو) ولا يزال يرفض قبول انضمام السويد إلى التحالف الدفاعي الذي تقوده الولايات المتحدة.

* لماذا يعد انتصار الرئيس التركي مهما للغرب؟

يمكن معرفة الأهمية الاستراتيجية العالمية لتركيا – التي زادت بشكل كبير بعد الحرب الأوكرانية – من خلال رد فعل مجموعة من قادة العالم الذين سارعوا إلى تهنئة رجب طيب أردوغان بفوزه في الانتخابات ليلة الأحد.

وكان أول من خالف المعهود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

إذ حرص على إرضاء غرور نظيره التركي وزميله “الرجل القوي”، ولم ينتظر حتى إعلان النتائج الرسمية للتصويت، محددا “سياسة أردوغان الخارجية المستقلة” سببا لانتصاره.

ويمكننا أن نفترض بأمان أن السياسة التركية التي ترضي روسيا بشكل خاص هي رفض أردوغان نبذ الكرملين بعد الغزو الشامل لأوكرانيا، حتى مع فرض حلفاء تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) عقوبات على موسكو وخفض اعتماد هؤلاء الحلفاء في مجال الطاقة على روسيا.

ويتضح هذا في زيادة التجارة بين تركيا وروسيا بشكل كبير بعد بداية الحرب في أوكرانيا.

وفي أعقاب تهنئة بوتين الأحد جاءت تهنئة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.

وعلى الرغم من كراهية الاثنين لتقارب أردوغان مع الكرملين أولا، ثم تقليصه لحرية التعبير والمعايير الديمقراطية في الداخل خلال العقدين الأولين من رئاسته، فإن تركيا بالنسبة للرئيسين الأمريكي والفرنسي حليف مهم – وإن كان صعب المراس، ولا يمكن التنبؤ به – بالنسبة إلى الغرب.

وتركيا عضوة رئيسية في حلف الناتو العسكري، وتشارك في جميع مهامه.

وربما يبقي أردوغان علاقاته وثيقة مع روسيا – لكنه في الوقت نفسه يقدم مساعدة عسكرية لأوكرانيا.

ومن المعروف أنه توسط في صفقة أنهت بموجبها روسيا حصارا كان مفروضا على إمدادات الحبوب الأوكرانية، وسمح هذا لها بإرسال تلك الحبوب إلى أجزاء من العالم تعتمد عليها.

كما أعطى أردوغان – بعد تردد طويل – موافقته الرسمية على انضمام فنلندا المجاورة لروسيا إلى الناتو.

ويتحدث أردوغان، الذي كان مدافعا شغوفا عن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، هذه الأيام عن “جعل تركيا بلدا عظيما مرة أخرى”.

وتطلب ذلك، بالنسبة إليه، وجود سياسة خارجية أكثر استقلالية. وطور على مر السنين علاقات جيدة مع جميع حلفائه.

ولم يخف البيت الأبيض نفاد صبره لإقناع أردوغان بالموافقة على عضوية السويد في الناتو أيضا.

وستوفر السويد غطاء مهما في بحر البلطيق للتحالف المناوئ لروسيا.

ويأمل الغرب في أن تكون الحالة المزرية للاقتصاد التركي – واحتمال أن يضطر أردوغان إلى التركيز على استقرار الأوضاع المالية وجذب الاستثمار الأجنبي – نقطة ضعف للضغط عليه من أجل موافقته على انضمام السويد إلى الناتو مقابل ذلك.

وما زالت تركيا والمجر الدولتين الوحيدتين في الناتو اللتين تمنعان عضوية ستوكهولم.

ويشعر الرئيس ماكرون بالقلق بشأن الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي، ويأمل في الحصول على تأكيدات من الرئيس أردوغان في أقرب وقت ممكن.

وخلال أزمة الهجرة في عام 2015، بدأ أكثر من مليون لاجئ وطالب لجوء – معظمهم من سوريا – رحلة محفوفة بالمخاطر عبر البحر الأبيض المتوسط لبلوغ الاتحاد الأوروبي على متن قوارب مهربي البشر.

ثم أبرمت بروكسل اتفاقا مع تركيا. تعهدت فيه أن تقدم مبلغا كبيرا من المال، وأن تسمح بسفر الأتراك بدون تأشيرة إلى الاتحاد الأوروبي – لكن ذلك لم يتم بالكامل بسبب اعتراض الاتحاد الأوروبي على سجن أردوغان للمنتقدين والمعارضين السياسيين – وسيبذل الرئيس التركي قصارى جهده لمنع المهاجرين الذين ليس لديهم وثائق من ترك المياه التركية لبلوغ الاتحاد الأوروبي.

لكن مسألة الأعداد المتزايدة من اللاجئين السوريين الموجودين في الداخل أثبتت أنها لا تحظى بشعبية كبيرة بين الناخبين الأتراك.

ووعدت جميع الأحزاب السياسية التي خاضت الانتخابات البرلمانية هذا الشهر باتخاذ إجراءات لحل “قضية المهاجرين”.

لكن الاتحاد الأوروبي يخشى من احتمال أن يؤدي دفع تركيا اللاجئين للعودة إلى سوريا إلى تعرضهم للخطر – ويخشى أيضا من أن تسمح تركيا لمهربي البشر مرة أخرى بإرسال قوارب طالبي اللجوء وغيرهم من المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط.

وما زالت بروكسل أيضا في موقف دفاعي، إذ تنخرط اليونان العضو في الاتحاد الأوروبي في نزاع مع أردوغان بشأن عدد من الجزر في بحر إيجه، بينما لا تزال قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي غاضبة بعد أن دعا أردوغان إلى تبني حل الدولتين (يونانية وتركية) للقضاء على الانقسامات المستمرة منذ الغزو التركي للجزيرة قبل نحو 50 عاما.

واعتاد الغرب على وصف الأهمية الاستراتيجية لتركيا على أنها الجسر بين أوروبا والشرق الأوسط – لكن غزو روسيا لأوكرانيا غيّر مكانة تركيا.

وليس هناك سوى قلة من المراقبين الذين يتوقعون حدوث مفاجآت كبيرة في السياسة الخارجية لأردوغان، وهو يبدأ ولايته الثالثة في السلطة. لكن حلفاء أنقرة الاستراتيجيين يراقبون الوضع عن كثب بالفعل.

فما تفعله تركيا مهم لهم فعلا.