السياسية:
ملاك محمود*

يختص اليمن بميزة تعطيه قيمة تاريخية ثمينة، ألا وهي الرمزيات التاريخية، التي أسهمت بشكل ملحوظ في صوغ هوية الإنسان اليمني وتشكيلها، وجلّها يستند إلى قيم ومبادئ أصيلة وبُنى عميقة ذات مدلولات تعكس الهوية الثقافية ومستوى الوعي الذي وصل إليه الإنسانُ القديم.

اللافت أنّ اليمنيين حتى اليوم لا يزالون يحتفظون ويتمسكون بهذه الرمزيات، رغم تقادم السنين، ويعمدون إلى إحيائها بُغية تعزيز هوية اليمنيّ، في ظل إعصار العولمة والتنميط والقولبة التي تهدف إلى طمس الهوية، وصولاً إلى الاحتلال والسيطرة والاستعمار الجديد.

في الوقت ذاته، نشهد حِراكاً بدأ يشتعل فتيله من تحتِ الرماد؛ لإحياء ظواهر لم تكن موجودة من قبل، بل لم يسمعْ بها اليمني على امتداد أجياله المتعاقبة، ولم تكن ذات حضورٍ في تشكيل هويته، التي ظلّت ترتسم على جبين التاريخ قروناً طوال.

رمزيات تاريخية عريقة

شجرة البن: حتى نهاية القرن السابع عشر، كان اليمن مصدر البن الوحيد في العالم، بحسب ما تشير إليه المصادر التاريخية، ويعدّ هذا المحصول رمزية وطنية في تاريخ اليمن، لا يزال حتى اليوم يُعرف ويشتهر به، فأيّ بنٍ ينافس نكهة البن اليمني الذي يتفرّد بنكهته المميزة؟

الجنبية: وهي حزام مزخرف يُلفّ حول خاصرة الرجل، يلتصق به خنجر، وتذكر المصادر أن تاريخها يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، كما تحمل رمزية تعبّر عن تاريخ اليمنيين المُترع بالحروب والمعارك التي كانوا يخوضونها ضد الطامعين والمحتلين فجعلت منهم مقاتلين لا يتنازلون عن أرضهم وعرضهم قيد أنملة.

المعالم التاريخية والدينية: لعل أبرز الرمزيات التي يتميز بها اليمن هي المعالم التاريخية والدينية التي من جهة تشهد على قدم الحضارة اليمنية وعراقتها، ومن جهة أخرى، تبرز مدى ارتباط اليمنيين بمقدساتهم الدينية خاصة بعد دخولهم الإسلام، إذْ غدا اليمن قبلة لطلاب العلم؛ نظراً إلى كثرة دور العلم وانتشارها في مناطق ومحافظات متفرقة منه، وغيرها من الرمزيات المادية والمعنوية التي لا يسع المجال للتفصيل والإسهاب في سردها.

الإسلام هوية يمنيّة جامعة

تذكر المصادر التاريخية أنه جاء في النقوش المسندية القديمة ذكر إله يدعى (ذي سماوي) وكان يعبده كثير من اليمنيين، وذكر (الله) في النقوش الأثرية، أيضاً (الرحمن) الذي كانت تُقدم له القرابين والنذور.

وفي هذا الصدد، يقول أستاذ مادة التاريخ في جامعة صنعاء، الدكتور حمود الأهنومي للميادين نت، إن” اليمنيين القدماء لم يكُن جميعهم وثنيين، وكان الإيمان بالله موجوداً، وعلى هذا نستطيع أن نقول إن شمس الإيمان لم تغب عن اليمن طوال التاريخ، ما جعل بعض المستشرقين يسمّي الديانة التي كان يدين بها بعض اليمنيين بالديانة الرحمانية أو ديانة الموحدين”.

ويضيف: “لاحظ المؤرخون أن هذه الديانة لم تكن متأثرة باليهودية والنصرانية في توحيدها لله، وأنها ديانة يمنية خالصة، وعلى هذا نستطيع القول إن هوية اليمنيين من قبل أن يأتي رسول الله هي الهوية الإيمانية، وظلت هي الجامع المسيطر أو السمة البارزة لليمنيين في كل مراحل تاريخهم القديم والمتوسط والحديث “.

ويلفت الأهنومي : ” حتى في ظل الاحتراب السياسي بين الدويلات اليمنية القديمة كان اليمنيون يتشبثون بيمن واحد ودين ومنهج واحد هو التوحيد، وحين اعتنق اليمنيون الإسلام على يد الإمام علي عليه السلام ومعاذ بن جبل ظلت الرمزية التاريخية لليمنيين هي الإسلام، هي اليمن، هي الأصالة، هي العادات والتقاليد، ولم تكن هناك رمزيات معينة بقدر ما هو الله والكتاب والسنة الصحيحة، هذه هي الرمزيات التي ارتبط بها اليمنيون بشكل عام “.

وأشار إلى أن “الهوية لم تتشكل بفعل فاعل، وأن السمات التي تميز اليمنيين عن سواهم، هي السمات الذاتية، بالتالي ليست بحاجة إلى البحث عنها لتتشكل من منظرين ونحو ذلك “.

فيما أشارت الناشطة السياسية إشراق المأخذي في تصريح للميادين نت إلى ارتباط اليمن عبر التاريخ بالرسالات السماوية، وقالت: “على امتداد التاريخ، ارتبط اليمن بالرسالات السماوية وهي رسالة الإسلام والتوحيد، وقصة بلقيس ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام التي سطرها الله في القرآن أكبر دليل على الحضارة العريقة المتينة والحكيمة، وعلى الهوية الإيمانية المتجذرة في عمق التاريخ اليمني”.

استدعاء رمزيات وثنية لتمزيق الهوية الجامعة

مؤخراً، أحيت ما تُسمى حركة “الأقيال” فعالية إحياء ما سمّوه “يوم الوعل اليمني” في محافظتَي تعز ومأرب برعاية مجلس القيادة الرئاسي التابع لمرتزقة العدوان، في سابقةٍ لم يعرفها اليمن على امتداد تاريخه، بحجة أن حيوان الوعل يعدّ رمزاً قومياً يعبّر عن الهوية اليمنية.

تشير المصادر إلى أنّ الوعل في الحضارة اليمنية القديمة رمز وتجسيد للإله عثتر، إله الخصب والنماء، ويمثل النشاط والخصب والقوة، وهو حيوان بري يتسلق الجبال وله قرنان كبيران، يعيش في قمم الجبال ويمتاز بصلابته، اتخذه بعض اليمنيين الذين انحرفوا عن عبادة التوحيد والإيمان إلهاً لهم.

يقول الدكتور الأهنومي إن “إحياء هذه الفعالية في المناطق الخاضعة للاحتلال يعبّر عن ارتباطها بمشروع العدوان، فلماذا لا يحتفل اليمنيون بهذا اليوم في مناطق اليمن على اختلافها إذا ما كان بحسب قولهم يوماً مرتبطاً برمزية تاريخية معروفة؟ ذلك لأن اليمنيين لا يعرفون عن هذه القضية شيئاً، إنما جاءت الفعالية وحركة “الأقيال”، التي تتبناها، نتيجة دعم وتمويل سعودي وربما أميركي- إسرائيلي في محاولة بائسة لصنع هوية جديدة وتمزيق الهوية اليمنية الجامعة وإضعافها، باعتبار أنها أكبر عامل في وجود أرضية صلبة لمواجهة العدوان، فبالتالي يعملون على ضربها وتدميرها “.

ويضيف: ” في كل المراحل التاريخية السابقة، لم تكن هذه الحركة وهذه الرمزية موجودة؛ لأن اليمنيين على اختلاف دولهم (الزيدية، والرسولية، والطاهرية … إلخ )، لم تكن تحمل هوية كهذه،  ولم تكن تعنيها هذه المسألة، كان الجميع ينطلق تحت هوية اليمن الواحد، والإيمان بالله، فإحياؤها يدل على أنها مموّلة ومدفوعة، كما أنها اصطدام بائس باليمنيين ولن يقبلها سوى المأجورين “.

فيما رأت المأخذي أن هذا الترميز يأتي في سياق الحرب الشيطانية، وتقول إن “هذه الرمزية تمثل خطورة كونها تأتي ضمن الحرب الشيطانية، فالعودة إلى رمزيات وديانات وثنية قصيرة المدى والأثر وترميزها يأتي في وقت يثبت شعبنا اليمني تمسكه بهويته الإيمانية “.

ولفتت السدمي إلى أن خطورة ذلك تكمن في ” أن هذه الرموز هي رموز قومية عنصرية، وهذه القومية تأتي في مقابل هوية الشعب اليمني الأصيلة التي لم تؤطر بــ أُطر قومية، فهذه الدعايات تأتي لمواجهة المشروع القرآني العالمي لتأطير اليمنيين بــأطر قومية عنصرية ضيقة”.

وتضيف أن ” هذه الحملة تأتي في إطار الاستهداف الثقافي للشعب اليمني وهو أخطر أنواع الاستهداف، الذي يستهدف الهوية والتاريخ، ويستهدف حتى النظرة إلى تاريخ الشعب اليمني وتزييفه”.

من يقف وراء هذه النشاطات؟ ولماذا؟

إنّ الحرص على تتبّع آلية إنتاج الرموز وإبراز عناصر تبريرها وتكييفها يعطي صورة واضحة لما تنطوي عليه من مقاصد ومبررات ودواعٍ، حركة “الأقيال” نشأت خلال العدوان على اليمن، وعُرفت في مواقع التواصل الاجتماعي بنشاط منتسبيها الذين لا تخلو منشوراتهم ونشاطاتهم من الإساءة لله والنبي الأكرم صلوات الله عليه وعلى آله، ويدّعون رفضهم ما يسمّونه العنصرية والسلالية، ويتخذون من الوعل رمزاً لهم.

يقول الدكتور الأهنومي: ” إن القيل ظهر كمصطلح سياسي وإداري في تاريخ اليمن القديم في العصور المتأخرة، عندما انهارت الدولة اليمنية المركزية، ظهر هذا المصطلح باعتبار أن من يحمله هو شيخ القبيلة دون الملك، أي أنّ القيل ظهر في مرحلة تاريخية لم تكن توجد فيها دولة مركزية قوية، فبالتالي كلمة قيل تعبّر عن مرحلة ضعف الدولة اليمنية، فهؤلاء الذين ظهروا اليوم بمسمّى الأقيال لم يتوفقوا عندما اختاروا لأنفسهم هذا المسمّى، إذ ذهبوا لاجترار مصطلح يعبّر عن ضعف”.

ويوضح أنّ أطروحاتهم قوبلت برفض المجتمع اليمني كونها تتعارض مع هويته الإيمانية الأصيلة: ” نجد أنشطتهم تتركز في مواقع التواصل الاجتماعي وتنحصر في حدودها فقط، ذلك أن المجتمع لم يقبل بهم واقعاً؛ لأن أطروحاتهم ترفض الإسلام وتسيء إلى النبي محمد صلوات الله عليه وعلى آله وسلم، باعتباره من قريش، وهم يرفضون كل ما جاءت به قريش بحجة أنها أمور وقضايا بدوية رجعية لا تتناسب مع الحضارة اليمنية “.

ويضيف أن “المحاولات التي نراها اليوم لإيجاد رمزيات مرتبطة بالديانة الوثنية القديمة لا تعبّر عن حقيقة الشعب اليمني، نحن نربط ظهور ما يسمّى بحركة “الأقيال” بالعدوان على اليمن، هذه مسألة واضحة، هم يستخدمون مثل هذه الرمزيات كسلاح لتمزيق الهوية اليمنية الإيمانية التي ترسخت على مدار مئات السنين، بالتالي هي لا تعبّر عن حقيقة، فالعدو يسعى من خلال ذلك لتمزيق الهوية اليمنية الإيمانية، وتفتيت نقاط القوة لدى اليمنيين، وتمزيقهم بين هويات متصارعة متناقضة حتى يتسنى له احتلال اليمن”.

ويتابع: ” هذا دأب الاحتلال، فمثلاً كان الأتراك العثمانيون يجعلون الشافعية في مواجهة الزيدية، بمسمّى آخر: اليمن الأعلى واليمن الأسفل!

والبريطانيون قاموا بضرب بعض مدن المناطق الوسطى كـ تعز وجبلة وذمار عام 1928 بدعوى تحرير الشافعية من حكم الزيدية، فضلاً عن إشاعة الخلافات المذهبية والقبلية وصناعة جنوب عربي، فاستدعاء الهويات الممزِّقة خطورتها سياسية ودينية، ومن يرتكب هذه الحماقات الكبيرة يتورط في إشكالات خطيرة بحقه وبحق الشعب اليمني”.

رفض مجتمعي في مواقع التواصل الاجتماعي

قوبل نشاط إحياء ما يسمّى بـ”يوم الوعل” برفض ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي له، فالبعض عدّه انقلاباً صريحاً على العقيدة والشريعة والحضارة الإسلامية، بل والتاريخ الإسلامي الذي شارك اليمنيون في صناعته، وآخرون استنكروا إحياء مناسبة كهذه كونها تعيد اليمنيين إلى عصر الجاهلية وتربطهم به، وأنها احتقار مهين للهوية اليمنية وتجريد من القيم الإنسانية، فيما قال أحد ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي: ” حتى وإن كان الوعل رمزاً لأجدادنا القدامى لا يمكننا الاحتفال بشركهم وجهلهم، فقد كان الوعل إلهاً في ثقافة القدامى” ، فيما قال آخر إنه ” رمزية لا وجود لها ولم يُسمع بها من قبل في أوساط اليمنيين وثقافة دخيلة على المجتمع اليمني”.

* المصدر: الميادين نت

* المادة نقلت حرفيا من المصدر ولا تعبر عن رأي الموقع