أيمن الرفاتي*

يواصل الميزان الأمني في دولة الكيان تراجعه الكبير اللافت، في ظل معطيات داخلية باستمرار حالة عدم الاستقرار وتراجع الاندماج نحو الفكرة الصهيونية التي قام على أساسها الكيان باعتباره “أرض الميعاد وواحة الأمن والاقتصاد لليهود”، إضافة إلى عدم قدرة المنظومة الأمنية على تحقيق مبادئها، سواء داخلياً أو خارجياً، لتحقيق مراد النظرية الأمنية للكيان.

ضمن نظرية الأمن الداخلي تقوم المنظومة الأمنية في الكيان بالمحافظة على الوضع الأمني، والتعامل مع جميع اليهود على أساس المساواة، وتوفير الحماية والسلم المجتمعي ضمن الدولة اليهودية. لكن في السنوات الأخيرة زادت حدة الاستقطاب الداخلي، وظهرت الشروخ الداخلية على السطح بشكل كبير، ولم تستطع دولة الاحتلال دمج جميع المكوّنات في بوتقة واحدة متماسكة، حتى طال الخلاف والاستقطاب الجيش الذي يعد ركيزة الدولة. 

وقد تجسّدت المبادئ الانعزالية لدى العرقيات وتكتلت كل عرقية في منطقة معينة، فيما واصل المتدينون الحريديم انعزالهم عن العلمانيين، وظهرت التفرقة بين اليهود ذاتهم. فالإثيوبي الأسمر ليس كالغربي الأبيض، والشرقي يكره الغربي، والغربي يرى أنه من بنى وضحى لبقاء الدولة، فيما الشرقي يرى أنه مضطهد وأن الغربي الأشكنازي يحوز على جميع الامتيازات.

في السابق كانت الخلافات الداخلية وتأثيراتها ضمن سيطرة المنظومة الأمنية، لكن في السنوات الأخيرة رصدت المئات من المشادات والاشتباكات والاعتداءات بين مختلف الطوائف والعرقيات وداخل “الجيش” أيضاً، وانتقلت المشاحنات إلى مواقع التواصل الاجتماعي.

ومؤخراً، زادت حدة الخلافات في ظل محاولة اليمينيين المتطرفين تطبيق الشريعة اليهودية داخل “الدولة”، وهو ما انعكس على توجّهات الناخبين في الانتخابات الأخيرة، وما تلاه من تحوّل الخلاف من الإطار الضيق إلى الإطار السياسي والاستقطاب الواسع، فباتت التظاهرات متبادلة بين معارضي الحكومة ومؤيديها ويشارك فيها مئات الآلاف أسبوعياً.

وفي العام 2019 قتل شاب من أصل إثيوبي يدعى “سولومون تاكا” على يد الشرطة، وتحوّلت جنازته إلى مظاهرات واعتصامات عمّت أرجاء الكيان، في اعتراض صارخ على سياسات التفرقة العنصرية التي يلاقيها يهود “الفلاشا” ذوو الأصل الإثيوبي منذ هجرتهم إلى فلسطين المحتلة في ثمانينيات القرن الماضي.

النظرية الأمنية تقوم على توفير حالة من الاستقرار الداخلي لكنها اليوم لم تعد كما في السابق، وباتت الشرطة في حيرة من أمرها، حيث تتلقى الأوامر من الوزير المسؤول عنها المتطرف “ايتمار بن غفير” بأن تستخدم القوة ضد المتظاهرين، بينما ترى أن عقيدتها الأمنية تفرض عليها التعامل بحيادية، وفي الجانب الآخر تجد الشرطة أنه في ظل التطورات الكبيرة التي شهدها المجتمع الداخلي في الكيان باتت لا تستطيع السيطرة على مستويات الجريمة والمافيا.

منذ قيام الكيان تروّج الصهيونية العالمية بأن كيان “إسرائيل” هي واحة الأمن والاقتصاد لليهود، وأن من يعيش فيها سيجد استقراراً أمنياً واقتصادياً وحالاً أفضل من الحال الذي يعيشه في أي دولة أخرى، لكن في ظل الخلافات الداخلية التي باتت تحمل إشارات لحرب داخلية تراجعت السردية التي تروّجها الحركة الصهيونية أمام يهود العالم، وباتت المبادئ التي قام عليها الكيان-وخاصة فيما يتعلق بالجانب الأمني-تنسف بفعل اليهود أنفسهم من ناحية ومن المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة من ناحية أخرى.

الوضع الداخلي في الكيان مؤخراً يعد الأخطر منذ احتلال فلسطين عام 1948، لما له من انعكاسات داخلية أخرى تتعلق بالصراع مع الفلسطينيين، وأيضاً على المستوى الخارجي فيما يتعلّق بنظرة أعداء الكيان له، وثقة الغرب والولايات المتحدة بأهميته في المنطقة، وهو ما أكدته دراسة أعدها معهد دراسات الأمن القومي في آذار/مارس الماضي، بأن “الانقسام الداخلي يؤثر بشدة على قدرة كيان إسرائيل على مواجهة التهديدات الخطيرة للغاية التي تواجهها”.

وفي الشق الثاني من النظرية الأمنية الداخلية للكيان فشلت “دولة” الاحتلال في فرض سياستها الرامية للسيطرة على الفلسطينيين، وتثبيت استقرار الحكم الصهيوني عليهم، حيث تقوم الاستراتيجية الصهيونية على ركيزتين اثنتين: الأولى استخدام إجراءات تهدئة لاحتواء الفلسطينيين من خلال توفير تسهيلات اقتصادية، والاعتماد على السلطة الفلسطينية لضبط الفلسطينيين بالنيابة عنها، فيما الركيزة الثانية تقوم على عملية الردع واستخدام القوة وجعل ثمن المس بالأمن الصهيوني كبيراً على المستويين الشخصي والجمعي للفلسطينيين.

الركيزتان اللتان يقوم عليهما تعامل الاحتلال مع الفلسطينيين للحفاظ على الحالة الأمنية لديه فشلتا فشلاً ذريعاً، فما عادت محاولات التدجين والربط بالوضع الاقتصادي والتسهيلات قادرة على احتواء الفلسطينيين، بل بات هناك جيل فلسطيني كامل يدرك طبيعة الاحتلال ونقاط ضعفه، ويدرك قدرته على ضرب النظرية الأمنية للكيان، وبات عدد كبير من الفلسطينيين يتصدّى لنهج التهدئة الذي تحاول تمريره سلطات الاحتلال، ويرفض التدابير التقييدية للسلطة الفلسطينية.

ومن ناحية ثانية فإن استمرار الجرائم التي يقوم بها الاحتلال ومحاولاته فرض وقائع جديدة على الأرض في الضفة والقدس ولدى فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، وشنه 5 معارك عسكرية دامية ضد قطاع غزة لم تعد رادعاً، بل إن الفلسطينيين باتوا أكثر قناعة بقدرتهم على ردع الاحتلال، والتأثير على أمنه الداخلي، وضرب نظريته الأمنية بأقل الأدوات.

بعد 75 عاماً على تأسيس الكيان يلاحظ المراقبون للوضع الأمني الداخلي سواء في البيئة الداخلية أو في العلاقة مع الفلسطينيين حجم فشل نظرية الأمن الداخلي الصهيونية، وعدم قدرة الاحتلال على تجاوز الوضع الداخلي الصعب لديه، إضافة إلى تواصل الفشل في التعامل مع الفلسطينيين، الذين باتوا اليوم أكثر قدرة في التأثير على الأمن الداخلي للكيان.

* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع