العراق والمقاومة الفلسطينية.. وحدة الأهداف والمسارات
عادل الجبوري*
ربما كانت زيارة الأمين العام لحركة “الجهاد الإسلامي” الفلسطينية زياد النخالة للعراق في الثاني عشر من شهر نيسان-ابريل الجاري، مفاجئة وخارج دائرة التوقعات والقراءات السياسية لمجمل مسارات الحراك الإقليمي المتعدد الاتجاهات. وربما كانت أيضًا خارج قائمة الأولويات الموضوعة من قبل مراكز ومصادر تحريك المياه الراكدة، وحلحلة العقد الشائكة، وتذويب كتل الجليد الصلدة بين عدد من فرقاء وخصوم المنطقة.
وقد يرى البعض في زيارة النخالة على رأس وفد رفيع المستوى من حركة “الجهاد الإسلامي” لبغداد، وكذلك زيارة وفد مماثل من حركة المقاومة الإسلامية “حماس” للمملكة العربية السعودية، بأنها تحولات تنطوي على قدر كبير من الأهمية، وهي تعد حلقة أساسية من حلقات إعادة ترتيب أوراق المنطقة وتطويق أزماتها، وهي بالفعل كذلك. فلا يمكن بأي حال من الأحوال، فصل الحراك السياسي الفلسطيني نحو بغداد والرياض، أيًا كانت محركاته، عن خطوات التقارب الإيراني-السعودي، والتقارب السوري-السعودي، وجهود حلحلة الأزمة اليمنية، والخطوات الواضحة لاستعادة العراق دوره المطلوب ومكانته المفترضة في خارطة المشهد الإقليمي العام، ولا يمكن فصله أيضًا عن وقائع وأحداث الميدان الفلسطيني، رغم أن المواجهات مع الكيان الصهيوني ليست بالأمر الجديد.
ولعل هناك جملة ملاحظات بخصوص زيارة النخالة الى العراق، من المهم جدًا الإشارة اليها حتى تكون صورة الحدث متكاملة وواضحة من مختلف جوانبها وأبعادها.
الملاحظة الأولى: أنها تعد الزيارة العلنية الأولى من نوعها منذ الإطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003 لسياسي فلسطيني يمتلك موقعًا قياديًا متقدمًا في إحدى أبرز فصائل المقاومة الفلسطينية.
الملاحظة الثانية: أن زيارة النخالة تمت بدعوة من جهات سياسية لها وجود ودور قوي في إدارة شؤون البلاد، وهي ليست ببعيدة عن فضاءات محور المقاومة، فضلا عن أنها تزامنت مع مراسم احياء يوم القدس العالمي، الذي يصادف في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك من كل عام، كما حدده الامام الخميني قبل أربعة وأربعين عاما، ويعد التظاهرة والفعالية العالمية الاوسع والاشمل لإبراز الدعم والاسناد السياسي والإعلامي والشعبي للقضية الفلسطينية.
ورغم أن وفد حركة “الجهاد الإسلامي” لم يأت بناء على دعوة رسمية من رئاسة جمهورية العراق أو الحكومة أو وزارة الخارجية، إلا أن الحفاوة والاهتمام الذي حظي به من قبل كل الجهات العراقية العليا كان لافتًا للغاية.
ولم يكن ذلك التزامن مصادفة، بل انه كان محسوبا ومخططا له. وقد أريد من ورائه أن تنطلق رسائل المقاومة الفلسطينية في يوم القدس العالمي هذه المرة من بغداد وليس من أي عاصمة أخرى. وهذه الرسائل مفادها فشل كل المخططات والمشاريع الرامية إلى جر العراق ووضعه على سكة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأكثر من ذلك، إن هذا البلد يعد حجر الزاوية في المواجهة الدائرة مع ذلك الكيان ومن يدعمه ويسانده من القوى الدولية الكبرى والقوى الإقليمية التابعة والخاضعة والمنقادة لها.
ولا شك أنه لم تظهر طيلة العقدين الماضيين اية مؤشرات واضحة وملموسة على أن العراق ذاهب الى مسار التطبيع مع “تل ابيب” كما فعلت أطراف عربية قبل عقود، مثل مصر والأردن، أو قبل أعوام قلائل، مثل الامارات والبحرين والسودان وعمان.
ورغم خضوعه للاحتلال الأميركي، واغراقه بكمّ هائل من المشاكل والأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية، ونجاح “إسرائيل” في تحقيق بعض الاختراقات فيه من هنا وهناك، الا أن العراق بالإطار العام بقي محصنًا وعصيًا على الإذعان والاستسلام لما تريده واشنطن و”تل ابيب” وعواصم غريبة وعربية أخرى.
وقد بات واضحًا أن العراق يقف في الجانب الرافض للكيان الصهيوني والمساند للقضية الفلسطينية، وأنه أخذ يغادر شيئًا فشيئًا تبعات وتداعيات وارهاصات مرحلة الاحتلال الأميركي ويستعيد عناصر قوته ومكانته في محيطه الإقليمي وعموم الفضاء الدولي، بعد فشل كل الرهانات لإعادة عجلة الزمن الى الوراء، وأنه متجه إلى تبني سياسات عقلانية معتدلة لا وجود فيها لمنهج الحروب والصراعات والمؤامرات العبثية.
في ذات الوقت، بات واضحًا أن حركات وفصائل المقاومة الفلسطينية أخذت تفهم وتتفهم بدرجة أكبر الواقعيات السياسية الحاكمة في عالم اليوم، وظروف المنطقة والتحديات التي تواجه دولها وشعوبها، وكيفية استثمار العوامل المتاحة من أجل ديمومة نضالها ضد الكيان الصهيوني للوصول إلى الأهداف المطلوبة والمرجوة. وأصبحت تلك الحركات والفصائل على قناعة تامة أو شبه تامة بأن استمرار التقوقع في المساحات المذهبية والطائفية الضيقة لا يجدي نفعًا في قبال الفضاء الواسع للمصالح والتحديات والتهديدات المشتركة مع المساحات المذهبية والطائفية الأخرى، ويكفي دليلًا على ذلك، أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومعها حزب الله اللبناني، والقوى السياسية العراقية في اطار محور المقاومة والحشد الشعبي، تعد اليوم الأكثر دعمًا ومساندة من الناحية الفعلية الواقعية -بعيدا عن الشعارات الفضفاضة والمواقف الازدواجية المنافقة- للقضية الفلسطينية.
في واقع الأمر، ومن أي زاوية نظرنا لزيارة النخالة لبغداد، فهي تمثل نقطة تحول بين مرحلتين في العلاقة بين العراق والمقاومة الفلسطينية. مرحلة سوء الفهم وخطأ القراءات، ومرحلة البحث عن نقاط الالتقاء وتفهم الواقعيات وتقدير حجم وطبيعة المخاطر والتحديات.
وهنا تكمن الملاحظة الثالثة، المتمثلة في أن الزيارة جاءت وكأنها جزء من عملية ترتيب مجمل أوراق الملفات الإقليمية المتداخلة فيما بينها، والتي أضحى العراق طرفًا محوريًا وفاعلًا فيها بعد أن اضطلع بدور حيوي مهم في المصالحات الإقليمية وحلحلة العقد القائمة بين أكثر الفرقاء خصومة وعداء، فضلًا عن وجود المقاومة الفلسطينية كرقم صعب ومؤثر في معادلات الصراع ما دام الكيان الصهيوني يشكل الخطر الأكبر، وما دامت المواجهة معه تعد في مقدمة الأولويات وصدارة الاهتمامات.
* المصدر: موقع العهد الاخباري
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع