السياسية / مركز البحوث والمعلومات

بعد مرور عشرين عاماً على احتلال العراق، تشير الأحداث أن الغرور الأمريكي لم يعد كما كان في العام 2003، ولم يعد بإمكان الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن أن يهمس لنفسه أو لمن حوله أنه حقق ما أراد في حربه على العراق.

هذا الواقع ليس مقتصراً على بوش أو نائبه “ديك تشيني”  أو وزير دفاعه “دونالد رامسفيلد” أو مستشاره للأمن القومي “كوندوليزا رايس” أو “بول برايمر” الحاكم المدني للعراق ما بعد الاحتلال، ولكنه لسان حال من حكم ويحكم في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، خلال سنوات ما بعد الاحتلال وإلى يومنا هذا.

أكذوبة الأسلحة

أكذوبة أسلحة الدمار الشامل التي بُني عليها احتلال العراق من قبل واشنطن وحلفائها لم تستمر طويلا، ولكن تبعات تلك الكذبة باقية إلى يومنا هذا، بما فيها الدوافع الحقيقة وراء الاحتلال الأمريكي للعراق؟ وعن ما آلت إليه الأمور بعد عقدين من الاحتلال؟!

ذهب جورج بوش الابن في اعقاب انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية إلى بسط النفوذ على العالم أجمع، انطلاقاً من أن المعطيات المختلفة تشير إلى أن التفرّد الأمريكي أصبح واقعاً، وبأنه لم يعد هناك منافس حقيقي على المستوى الدولي، وعلى مختلف الفاعلين الدوليين “دول ومنظمات” الخضوع وتمرير ما تريده واشنطن في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية  والعسكرية، وفي العالم شرقاً وغرباً.

حسب العديد من القراءات التحليلية، فإن المشهد العالمي في ذلك الوقت أعطى الولايات المتحدة أكثر مما تريد أو تستحق، وكان واضحاً أن أغلب القوى في ذلك الوقت لا تريد الاصطدام والمواجهة، والقارئ لمسار الأحداث خلال تلك المرحلة يمكنه القول، أن التطورات المختلفة حول العالم كانت تسهم في مزيد من التغوّل الأمريكي على النظام الدولي من خلال فرض أجندتها على مختلف القضايا العالمية، دون مراعاة للمصالح المشتركة والقواعد المنظمة للنظام الدولي القائم.

غرور وتغوّل

عندما نتحدث عن هذا التغوّل من قِبَل واشنطن في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، لا بد من الإشارة أن سقوط الاتحاد السوفيتي وتواري بقية القوى بما فيهم الحلفاء الغربيين، ساهم إلى حدٍّ كبير في تعاظم الغرور الأمريكي تجاه مختلف القضايا الرئيسية حول العالم.

هذا ما دفع واشنطن إلى اختراق القانون الدولي في أكثر من مناسبة وتجاوُز كل الخطوط الحُمر دون اكتراث للسلام والاستقرار حول العالم، وهذا ما تجلّى بصورة واضحة في مسار الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003م،  ومن قبله احتلال أفغانستان في العام 2001م.

أهداف ورسائل أمريكية

وبعيداً عن تفاصيل التجاوزات الأمريكية “وما أكثرها” ما قبل احتلال العراق، لا بد من الوقوف على ما كان المراد تحقيقه في “الداخل العراقي أو على مستوى منطقة الشرق الأوسط أو على المستوى الدولي” من ذلك الاحتلال من خلال عدد من النقاط أهمها:-

  • سعت الولايات المتحدة إلى أن يكون احتلالها للعراق بمثابة نموذج للتعامل مع الأنظمة المارقة “حسب الوصف الأمريكي”، وفي الأشهر التالية للاحتلال كان من الواضح أن التسويق الإعلامي في الداخل الأمريكي وفي العالم يريد أن يتم تجاوز تبعات الاحتلال والحرب، من خلال القول أن العراق في طريقه لكي يصبح دولة ديمقراطية.

في هذا السياق يشير الدكتور حمزة الخدام في قراءته للحملة الإعلامية الأمريكية خلال غزو العراق بقوله “أن الحملة الإعلامية بدأت قبل المعارك وسارت موازية له واستمرت بعدها واستخدمت سلاحاً سادساً في الأزمة إلى جانب الأسلحة الجوية والبحرية والضغط الاقتصادي والسياسي، ألا وهي حرب الإعلام”.

هذا المسار الدعائي الأمريكي  (البروباغندا في الإعلام الأمريكي والدولي) ساهم في رفع مستوى الغرور داخل الإدارة الأمريكية والاعتقاد أن لديها القدرة الكاملة في تحقيق ما تريد، وهذا تحديدا ما عجّل بقرار تفكيك وحل شامل لمختلف المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية، دون اكتراث لما قد تؤول إليه الأوضاع مستقبلاً في العراق.

  • بعد سنوات من احتلال العراق، كان المخطط الأمريكي “القائم على استراتيجية البقاء في العراق والمنطقة” يُمهّد إلى ما “ما بعد الانسحاب” من خلال إبرام الاتفاقيات مع الجانب العراقي، وهذا ما كان من خلال عدد من الاتفاقيات “اتفاقية الإطار” و”اتفاقيات التعاون الاستراتيجي” وغيرها من الاتفاقات في مختلف الجوانب السياسية والعسكرية والأمنية.

وفقاً لهذا المخطط، سعت واشنطن إلى إبقاء السيطرة على العراق تحت رعايتها وإبقاء المسار المستقبلي للعملية السياسية في الداخل العراقي تحت هيمنة النفوذ الأمريكي، تحت مسمّى وعناوين “حل الاختناقات السياسية في العراق” والحرص على أقصى الجهود في دعم الديمقراطية.

  • وفي سياق آخر كان تعزيز الوجود العسكري وإعادة تشكيل الشرق الأوسط وهيكلته بصورة تتوافق مع المصالح الأمريكية، كان من أهم الأهداف المعلنة الذي لم تخفيه واشنطن عند غزوها العراق، وكان تغيير الأنظمة في مقدمة هذا المخطط.

وحسب العديد من المراقبين للسياسة الخارجية الأمريكية أن ما حدث في العام 2011 من احتجاجات شعبية في عدد من الدول العربية يندرج تحت مخطط تغيير الأنظمة، كونه يخدم مستقبل التواجد الأمريكي في المنطقة، من خلال تقسيم الشعب الواحد على أسس طائفية وعرقية ومناطقية.

وهو ما يدفع بالأوضاع إلى اشتعال الحروب الأهلية داخل البلد الواحد، وهو من شأنه إضعاف الأنظمة الحاكمة وجعلها ترتمي في الأحضان الأمريكية بحثاً عن الحماية من شعوبها، ومع مرور وتزايد المخاوف الداخلية يتعاظم مسلسل التنازل من خلال التبعية المطلقة والانخراط في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة والمتضمنة: السماح للقوات الأمريكية وغيرها من القوات الأجنبية في التواجد وإقامة القواعد العسكرية لفترات زمنية طويلة.

تهديد الأمن والسلم الدوليين

وبعيداً عن حديث الولايات المتحدة عن حربها على الإرهاب في كلٍ من العراق وأفغانستان، كان من الواضح أن الرغبة في التفرّد بالهيمنة على النظام العالمي في مختلف شؤونه بحاجة إلى أحداث كبرى، للحيلولة دون ظهور منافسين من الغرب والشرق، ولهذا لم تكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في مدينتي نيويورك وواشنطن التي أسفرت عن مقتل نحو ثلاثة آلاف شخاص، سوى مبرر لإعلان الحرب على كل المخالفين وفق منطق “من ليس معنا فهو ضدنا”.

ووفق هذا المنطق المتغطرس  ذهبت واشنطن وحلفائها إلى تهديد الأمن والسلم الدوليين عندما دفعت بعشرات الآلاف من جنودها إلى احتلال العراق، دون اكتراث للعواقب المحتملة، بما فيها الخسائر البشرية والتي قُدّرت أعداد القتلى بـ 4500 جندي و33 ألف جريح إلى جانب الخسائر المادية والمقدرة بـ 800 مليار دولار بصورة مباشرة، هذه الأرقام وغيرها كان المبرر لها حسب الساسة في واشنطن “الحفاظ على الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي الأحادي القطبية والاستمرار في وظيفة القيادة للعقود القادمة”.

انهيار الحُلم الأمريكي

لكن بعد عقدين من المغامرة الأمريكية في العراق، وبقراءة واضحة للنتائج يمكن القول: أن ما ذهبت واشنطن إلى تحقيقه في العام 2003، لم يتحقق في معظمه والشاهد على ذلك تغيّر الخطاب من الوعد والوعيد تجاه المعارضين والمخالفين، إلى الحديث عن الورطة في العراق ومن قبله أفغانستان، وأصبح الحديث في البيت الأبيض اليوم عن أن وجود القوات الأمريكية في العراق “استشاري” فقط وبأعداد لا تتجاوز 2500 جندي وأن بقائهم مرهون بموافقة الحكومة في بغداد.

ولم يعد خافياً على الساسة في واشنطن أن الحقائق على الأرض تشير أن حروبهم المختلفة وسياساتهم التغوّلية من أجل تثبيت النظام الأحادي القطبية في طريقها للانهيار,وأن مواصلة الهيمنة على العالم أصبح من الماضي، لا سيما مع صعود التنين الصيني الكبير والعودة الروسية كقوة كبرى.

ختاماً، شمس الإمبراطورية الأمريكية تتوارى يوماً بعد آخر، وها نحن اليوم نشهد ترنحاً “غير مسبوق” على مستوى الداخل والخارج وتراجعاً ملحوظاً في القدرات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ولم يتبقَ للأمريكان سوى إشعال الحرائق هنا أو هناك للحيلولة دون مزيد من التراجع، وما “الحرب في أوكرانيا” و”التصعيد في شرق آسيا” سوى شاهدين على تلاشي الهيمنة وفقدان السيطرة على مختلف القضايا في العالم.