طراد حمادة*

الاتفاق الإيراني السعودي الذي تحقق برعاية صينية في بكين، يمثّل في تحقّقه أوج ما حصله الصراع وميزان القوى الإقليمي والدولي، بخاصة في غرب آسيا، في السنوات الماضية من هذا القرن.

وفيه انتقال استراتيجي في منطقة تمثّل مركز الثقل الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة والصراع على أوروبا نهاية القرن الماضي وأحلام سيطرة نظام الرأسمالية والسيطرة الأميركية آحادية الجانب على العالم.

ورغم استعادة الصراع الدولي لزخمه في القارة الأوروبية في الحرب الروسية – الأوكرانية وتورّط الغرب الأوروبي فيها إلى جانب الحلف الأطلسي (الناتو)، فإن نهوض آسيا وإمكانياتها يجعل منها قلب العالم.

يضاف هذا التحوّل الدولي إلى حساب القوة في ما تحصل من انتصارات للمقاومة على الأعداء المحتلين، وعودة العراق قوياً، وانسحاب أميركا من أفغانستان. لقد مثلت هذه الإنجازات دعماً قوياً لتراجع أميركا والحلف الغربي لمصلحة صعود دور الصين الشعبية عالمياً على المستويات كافة وعودة آسيا وأفريقيا إلى المشاركة في إدارة شؤون العالم.

كل ما تقدّم يشكّل مقدمات ضرورية لقاعدة النظر في تحليل وفهم الأبعاد الاستراتيجية لهذا الاتفاق التاريخي:

في توصيف الاتفاق، أنه حصل بين دولتين إسلاميتين لكل واحدة منهما دورها ومكانتها المعنوية والاعتبارية في الإسلام وفي آسيا والعالم، وبوساطة وشهادة الصين الشعبية، الدولة الكبرى في العالم وفي آسيا والعضو الدائم في مجلس الأمن الدولي والمؤهل لدور قيادي متقدم في السياسة والاقتصاد والأمن والديبلوماسية وإدارة الشؤون الدولية.

ولذلك، يكتسب الاتفاق أهمية مضافة من المكانة التي تتصف بها أطرافه، كل في ما يمثل وما هو قادر على تمثيله في غرب آسيا والعالم. كما يشكل حدثاً عالمياً لآثاره المنتظرة ودلالاته المعتبرة في موازين القوى الإقليمية والدولية.

في معنى أن آثاره تنال من أطرافه أولاً، ومن دول أخرى ترتبط بعلاقات معها ثانياً، ويكون أثره خاصاً من ناحية العلاقات بين الأطراف المباشرة، وعاماً من ناحية العلاقات على الصعيد الدولي والإقليمي.

كيف تظهر مواقع الأطراف المشاركة في الاتفاق في ميزان القوى؟ فإذا كان كل منها قد حقق مكاسب صريحة، فإن مستويات هذه المكاسب متباينة من ناحية علاقتها بالسياسات المتبعة للأطراف وميزان القوى الراهن في لحظة توقيع الاتفاق ومدى تطابقه واتفاقه مع السياسات الأصلية لأصحابه – وإن كانت المكاسب حصلت لمصالح جميع الأطراف.

حققت الصين مكسباً دولياً لمصلحتها في مقابل الولايات المتحدة والأعضاء الآخرين في مجلس الأمن، ما عدا روسيا التي تشارك الصين مكسبها في وجه خسارة أميركا لدورها المشهور في إدارات مفاوضات التسويات بخاصة في منطقة الشرق الأوسط.

ولأن روسيا مشغولة في حرب أوكرانيا، فهي خارج حسابات الخسارة في هذه الاتفاقية بل مشاركة في المكسب الصيني.

رعاية الصين للاتفاق مكسب إيراني معنوياً، لأنه أقرب إلى منطوق الخط السياسي الإيراني منه إلى الخط السياسي السعودي، ولو تركت السعودية للاختيار -وفق منطوق سياساتها- لاختارت الوسيط الأميركي!

لكنها تعرف أن الأميركي ينظم انسحابه من المنطقة وأنه سعى بقوة لقيام حلف إقليمي ضد إيران، تشارك فيه دول عربية وخليجية بعدما أمعنت في سياسة التطبيع وسياسة صفقة القرن وتهويد القدس في فترة ترامب، وكان النزاع السعودي الإيراني في تلك الفترة على أشده.

فشلت السعودية في حرب الإرهاب، والحرب على اليمن، وكذلك في لبنان، وتغيّرت سياساتها الداخلية، لكن مشوار التطبيع مع العدو لم يجد له مخرجاً. كما لم تكن الحماية الأميركية وحدها كافية لبسط الأمن والأمان أمام سياسة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي أحدث متغيرات في إدارة بلاده تتنوع المواقف حيالها.

وعليه، تكون رعاية الصين مكسباً لها، وبعده لإيران، ومثّلت ضربة قوية للنفوذ الأميركي وكيان العدو الصهيوني، ومكنت السعودية من الإفلات من مخاطر الحلف الأميركي ومن أن يكون لها أصدقاء دوليون آخرون.

تتمتع السعودية بعناصر قوة أصيلة ومستدامة تتعلق بخاصية دور مكة المكرمة والمدينة المنورة في الإسلام – أرض الوحي والنبوة المحمدية الخاتمة. وهي دولة قوية في النظام العربي والجامعة العربية، إلى جانب الدول الخليجية الأخرى المتفقة معها أو المتباينة نسبياً.

وهي قوة عالمية في إنتاج النفط والطاقة، وفاعلة في منظمة «أوبك»، ولديها مصادر قوة عديدة متعلقة بدورها الإسلامي والعربي في أفق خاصية المكان والثروات والتراث والمذاهب وحركة التاريخ.

وهذه العناصر استخدمت في حالات النزاع وفي حالات الوفاق في سياساتها مع إيران ومع غيرها من الدول. ولعل الحرب على اليمن كانت أوج حالة النزاع التي خرجت السعودية منها منهكة وصارت في حاجة ماسة إلى الاعتراف بحقوق اليمن وإيقاف الحرب.

وكذلك وجدت السعودية مشكلات في قدرات وحدود الحماية الأميركية لها، وكذلك حساسية التطبيع مع العدو من حيث أنه يُفقد النظام السعودي القدرة على الاستفادة من عناصر القوة الأصيلة للجزيرة العربية.

وعليه، ذهبت إلى الاتفاق في بكين في لحظة حرجة من موقعها في ميزان القوى. واختارت الوفاق على النزاع مع إيران ومحور المقاومة بعد أن خبرت وتركت أوهام التطبيع مع العدو والعداء لإيران، وكذلك مراجعة مرحلة دعم حركات التكفير وإعلان إصلاحات على صعيد أفكار التيار الوهابي التي جربتها حركة محمد بن سلمان. وهذه مسألة أساسية تشير إلى حصول متغير داخلي في النظام السعودي يوصف بالإصلاحي على صعيد الفكر الوهابي السلفي المتشدد.

في قبالة هذا الوضع السعودي، ذهبت إيران للتفاهم مع السعودية في بكين، وعليه تكون لحظة الاتفاق لمصلحتها؛ في معنى لمصلحة الموقف إلى جانب التضامن بين الدول الإسلامية وعدم تركها فريسة للسياسات الأميركية الإسرائيلية.

تتمتع إيران بعناصر قوة أصيلة في آسيا وفي العالم الإسلامي، وذلك على المستوى الحضاري والديني والجيوسياسي، وتعتبر الدولة الإسلامية المعاصرة التي حققت في ثورتها حريتها واستقلالها وسيادتها وتمكنت أن تكون القطب الذي تدور حوله قوة اشتراك الإسلام في إدارة العالم.

وتسعى إيران إلى وحدة المسلمين وتقدّم الدعم لحركات التحرر وحق الشعوب في تقرير مصيرها وفي مقاومة دول العدوان والاستكبار والنهب والسيطرة. واستطاعت الانتصار في الحرب المفروضة وفي حرب الحصار والحرب الناعمة وأشكال الحروب الأخرى، وكانت القوة الإسلامية التي تدعم مقاومة الشعب الفلسطيني بلا حدود.

وتقود إيران الآن محور الممانعة ومقاومة الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين والقدس وحرب الإرهاب والغزو الأميركي للمنطقة، في زمن كان الغزو الأميركي للعالم الإسلامي من أطرافه يهدف إلى تطويق إيران وتغيير النظام الإسلامي وقيام حلف إقليمي تابع لأميركا ونظام شرق أوسطي جديد تشارك فيه دولة الكيان الصهيوني.

وكانت إيران دائماً، وعلى رغم الصعوبات والعداوات المجانية والجائرة، تعمل على تسوية النزاعات مع الدول الإسلامية بالحوار والدعوة للتضامن والتفاهم والاتفاق.

لذلك، فإن ذهاب إيران إلى الاتفاق في بكين كان ترجمة لمنهجها السياسي واعترافاً من الآخر بصحة هذا المنهج، وأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح. ولذلك، لا معنى للتساؤل حول مشروعية الاتفاق، لأنه هو في أصل المنهج الإسلامي الصحيح، ولأنه لمصلحة أطرافه الإسلامية في مواجهة الأعداء.

لقد سعت الولايات المتحدة إلى إقامة حلف إقليمي، تشارك فيه دول عربية مع الكيان الصهيوني، عنوانه العداء لإيران وللمقاومة في كل من فلسطين ولبنان، والحرب على سوريا، وعلى اليمن، ومنع ثورة الشعب في البحرين من تحقيق أهدافها بالتدخل العسكري المباشر، ومحاولة زرع الفتنة بين المسلمين السنة والشيعة، ودعم الإرهاب، وسياسة الحصار والتهديد، وتجارة السلاح، ونهب ثروات الشعوب، ومنع التواصل بينها.

هذه السياسات منيت جميعها بالفشل، فيما حققت سياسات المقاومة وحق الشعوب في الحرية والتعارف والتعاون وبناء الثقة والحفاظ على الأمن الدولي وتبادل المصالح والأفكار بالتعارف والتفاهم، انتصاراً في مواجهة أشكال الحرب بالدفاع والمقاومة. لذلك، فإن ما تحصل من العودة للاتفاق اعتراف بعد فشل سياسة العداء بصحة خط التفاهم الداخلي، وهو في قلب أهداف ومنهج السياسة الإيرانية.

ولذلك، ذهبت الجمهورية الإسلامية إلى الاتفاق عملاً بمنهجها، وفي لحظة تاريخية لمصلحتها، وفي بكين -مكان يتفق واختياراتها الدولية. ولذا فإن نتائج هذا الاتفاق ستكون بلا شك لمصلحة الدول الإسلامية في محور المقاومة؛ لمصلحة اليمن، وسوريا، ولمصلحة فلسطين في مقاومتها، وهي الرابح الأساسي لأن العدو الصهيوني هو الخاسر الأكبر من هذا الاتفاق ومعه أسياده الأميركيين.

وهذا ما سوف يحصل في آثار هذا الاتفاق على دول المنطقة والصراع العربي الصهيوني وإعادة روح التضامن العربي والإسلامي إلى الأمة وإسقاط سياسات العدوان والتطبيع مع العدو وقيام الأحلاف الأميركية. إنه مظهر الغروب الأميركي في الشرق.

* المصدر: موقع شفقنا
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع