ملك توقعات الزلزال.. هل يجب أن نتعامل مع الباحث الهولندي على أنه مروج للأكاذيب؟
السياسية:
في عام 1974، أصدر الفيزيائي الفلكي البريطاني الشهير “جون جريبن”، بالتعاون مع عالم آخر هو “ستيفن بلاجمان”، كتابا بعنوان “تأثير المشتري”، لاقى الكثير من الاهتمام، وباع ملايين النسخ. يتحدث الكتاب عن أثر محتمل للاقترانات الكوكبية في السماء ببعض أنواع الكوارث الطبيعية على الأرض، ومنها الزلازل، وقد توقع العالمان في كتابهما -من ضمن عدد من التوقعات- حدوث زلزال في فالق سان أندرياس في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية في يوم 10 مارس/آذار عام 1982، لكن هل حدث ذلك حقا؟
تأثير المشتري
بداية، دعونا نُعرِّف ما يعنيه اصطلاح “محاذاة الكواكب”. تعني هذه المحاذاة وقوف عدد من الكواكب في جانب واحد من الأرض، فمثلا في 1 مارس/آذار 2023، بعد غروب الشمس، سيقف كل من المشتري والزهرة إلى جوار بعضهما بعضا في السماء بعد الغروب، وفي بعض الأحيان يدخل إلى المحاذاة عدد أكبر من الكواكب، وفي أحيان نادرة يمكن لمعظم الكواكب أن تكون في جانب واحد من الأرض بينما تكون الشمس في الجانب الآخر. في هذه الحالة تحديدا يمكن لأثر الجاذبية المجتمع لهذه الكواكب أن يَطُول الأرض.
قبل صدور كتاب “تأثير المشتري”، كان علماء الفلك والجيولوجيا مجمعين على وقوع ظاهرة محاذاة الكواكب وعلى كونها تؤثر على الأرض بشكل ما، لكن هذا التأثير لا يمكن أن يصل إلى درجة إحداث الزلازل، ببساطة لأن تلك الكواكب بعيدة جدا عن الأرض، بينما يمتلك القمر (الصغير جدا مقارنة بتلك الكواكب لكنه قريب جدا من الأرض نسبيا) أثرا أقوى منها مجتمعة، وهو ما يتضح لنا في حالة المد والجزر (وإلى الآن لا توجد دلائل على صحة هذا الافتراض القائل بوجود علاقة بين محاذاة الكواكب والزلازل).
لكن “جريبن” ورفيقه سعيا إلى تجنب هذه الاعتراضات بسلاسة من خلال النظر في تأثير المحاذاة، ليس على الأرض بشكل مباشر ولكن على الشمس، ثم افترضا أن الشمس ستؤثر على الأرض عبر إبطاء دورانها بمعدل يسمح بتهتك أكبر من المعتاد في القشرة الأرضية، ما قد يتسبب في عدد من الكوارث، منها زلزال سان أندرياس المحتمل بحسب توقعات العالِمَين.
مر العاشر من مارس بسلام، وفي شهر أبريل/نيسان التالي، نشر “جريبن” و”بلاجمان” كتابا أقل مبيعا بعنوان “إعادة النظر في تأثير المشتري”، قالوا فيه إن التأثير المقصود قد حدث بالفعل في عام 1980، على الرغم من عدم وجود محاذاة كوكبية في ذلك الوقت، وتسبب في ثوران بركانيّ لجبل سانت هيلين غربي ولاية واشنطن الأميركية، وبحلول عام 1990 أعلن “جريبن” أنه أخطأ في فرضيته، واعتذر عن علاقته بهذا الموضوع من الأساس.
لكن على الرغم من ثبوت خطأ تلك الفرضية، فإن ما فعله العالِمان في هذا الكتاب هو محاولة لما يمكن أن نسميه “التنبؤ بالزلازل”، ويعرِّف الجيولوجيون التنبؤ بالزلازل بأنه القدرة على تحديد مكان الزلزال وموعده ومقياسه بدقة، كأن تقول إن شمالي الجزائر على سبيل المثال سيشهد زلزالا بقوة 6.8 على المقياس في يوم 15 أكتوبر القادم.
التنبؤ بالزلازل
يعني ذلك أن التوقعات الأكثر عمومية لا تندرج تحت ما يقصده العلماء من اصطلاح “التنبؤ بالزلازل”، لأن أي خرق لتلك القاعدة (تحديد موعد الزلزال ومكانه وشدته بدقة) لن ينقذ الناس من زلزال قريب، فمثلا سيكون كاتب هذا التقرير صادقا حينما يقول لك إن تركيا ستشهد زلزالا أعلى من 7 درجات على المقياس قريبا ويسكت فلا يعطيك الموعد، بل ويمكن أن يحدد نطاقا زمنيا واسعا كأن يقول إن الزلزال سيحدث (خلال 10 سنوات) وسيكون صادقا كذلك، هذا لأن بعض المناطق في العالم تشهد بالفعل معدلات زلازل أكبر من غيرها، لكن هذا لا يعني أن لدينا القدرة على التنبؤ بالزلازل.
فتركيا، كما أسلفنا في تقرير سابق، تقع على صفيحة صخرية صغيرة تسمى صفيحة الأناضول، التي تندفع للغرب بفعل حركة صفيحتين كبيرتين مجاورتين، الأولى هي الصفيحة الأوراسية من الشرق والشمال، والثانية هي الصفيحة العربية جنوبا، ويضاف إلى ذلك تأثير حركة الصفيحة الإفريقية، تشابُك تلك التحركات يضع تركيا تحديدا في منطقة حرجة زلزاليّا، ويجعل احتمالية حدوث زلزال قوي كل عدة سنوات واردة، ولا تحتاج إلى متنبئ كي يخبرنا بها.
يجري الأمر نفسه على مناطق مثل غربي الولايات المتحدة الأميركية وألاسكا وعدد من المناطق في أميركا الجنوبية مثل شيلي ودول في شرق آسيا مثل اليابان وإندونيسيا، لأنها جميعا تقع في مناطق حرجة تتلقى أكبر الزلازل على مستوى العالم بسبب طبيعتها الجيولوجية، بل يمكن للعلماء أن يعطوا درجات من الترجيحات لهذه المناطق، حيث يُحتمل مثلا بنسبة 72% أن تختبر ولاية كاليفورنيا زلزالا كبيرا على أي نقطة في فالق سان أندرياس خلال 3 عقود، وتنخفض النسبة إلى نحو 30% في بعض المناطق في اليابان.
أضف لذلك أنه لا يمكن لك توقع زلزال بدون تحديد الموقع، لأن الزلازل -على غير ما تظن للوهلة الأولى- ليست ظاهرة نادرة، تشهد الأرض سنويا ما يزيد عن مليون زلزال، نصفها يمكن رصده بأجهزة قياس الزلازل، و100 ألف منها من الممكن الشعور بها، لكن 100 فقط يمكن أن تسبب ضررا، وحوالي 15-20 زلزالا منها تكون مؤثرة جدا (فوق مقياس 7 درجات). بلدك مثلا يسجل سنويا العديد من الزلازل التي تعلنها الهيئات المختصة، من ثَم لو قلنا لك إن زلزالا سيحدث اليوم في العالم لكنّا صادقين تماما وبنسبة 100%، لأننا ببساطة لم نحدد الموقع.
والآن.. إلى الخبير الهولندي
عند تلك النقطة تحديدا، وبعد مقدمة طويلة لكنها ضرورية جدا، يظهر خبير الزلازل الهولندي “فرانك هوغربيتس”، الذي لا نعرف تخصصه، فهو فقط “خبير زلازل”، وبعد بحث طويل لم نجد اسمه في قواعد البحث عن الورقات العلمية البحثية، وهذا غريب حقا، فعادة ما يكون للباحث المُعتبر عدد من الأبحاث المنشورة باسمه والتي خضعت لمراجعة الأقران.
لكن دعنا من تلك النقطة الآن، ولنبدأ بتطبيق ما تعلمناه منذ قليل على الخبير الهولندي، أول معرفتنا به كانت حينما كتب، قبل زلزال 6 فبراير/شباط المدمر في تركيا وسوريا، أنه يتوقع أن يحدث زلزال في منطقة تقع بين سوريا وتركيا “عاجلا أو آجلا”، هذا التوقع لا يحمل سمات التنبؤ الثلاث، ببساطة لأن الحدود ما بين سوريا وتركيا تقع بالفعل ضمن منطقة نشطة زلزاليّا شهدت الكثير من الزلازل على مر التاريخ.
في تركيا، يجري فالقان يمثلان منطقة زلازل كبرى ومتكررة، الأول هو فالق شمال الأناضول الذي يجري على مسافة 1500 كيلومتر، والثاني هو فالق شرق الأناضول بطول 700 كيلومتر الذي حدث عنده الزلزال الأخير، وقد عانت البلاد من زلازل كبيرة تتخطى الدرجات السبع بسببهما خلال مئات السنين الماضية، ومع الأسف فإنها ستعاني من زلازل شبيهة في المستقبل.
لكن دعنا نفترض جدلا أن الباحث الهولندي كان يقصد بـ”عاجلا أو آجلا” الأيام القليلة القادمة، ومن ثم يكون تنبؤه صحيحا، هنا نحن أمام احتمالين لا ثالث لهما، فإما أن ما حدث كان مجرد صدفة، وإما أن ما حدث هو نظرية علمية جديدة ستكون الطفرة الحديثة الأهم في العلم كله، فكما هو معلن من قبل الهيئات البحثية المختصة، لا يمتلك العلماء أي نموذج أو أداة يمكن من خلالها التنبؤ بالزلازل.
معنى المنهج العلمي
في هذا السياق، دعنا نبدأ بالاحتمال الثاني، أننا أمام عبقري اكتشف نظرية جديدة. إن المنهجية العلمية تقضي بأن تُنحّى الصدف وأخطاء التنفيذ والتحيزات عن طريق التكرار، يعني ذلك أنك إذا نجحت في تحقيق نتيجة ما بإحدى التجارب، فإن ذلك لا يعني أن نعامل النتيجة التي توصلت إليها على أنها حقيقة علمية، فقد تكون هذه النتائج مجرد مصادفة أو خطأ في استخدام الأدوات، أو أنك تحيزت في أثناء تنفيذ تجربتك للحصول على نتيجة بعينها كانت محددة مسبقا.
لذلك يتعين على علماء آخرين استخدام نظريتك وتكرار هذه التجربة والحصول على نتائج شبيهة لكي نحكم على نظريتك بالصحة. في هذه النقطة تحديدا، ربما يجب أن نوضح أن “فرانك هوغربيتس” ليس شخصا قليل التنبؤات، الرجل يتنبأ بالزلازل على الأقل مرتين أسبوعيا منذ سنوات طويلة، ويُلقِي بالتوقعات هنا وهناك، فمثلا في 2015 توقع أن تُضرب كاليفورنيا بزلزال بقوة 8.8 على المقياس، لكنه لم يحدث، وتوقع زلزالا آخر قويا في 2018 بسبب محاذاة كوكبية، وأيضا لم يحدث، ويمكن لك أن تُلقي نظرة على حسابه على تويتر لتجد أنك في بحرٍ من التنبؤات بالزلازل.
ضف لذلك أن الرجل في كثير من الحالات لا يقول توقعات محددة، بل تكون توقعاته على شاكلة: “نشاط زلزالي محتمل في هذه المنطقة”، والتي عادة ما تكون منطقة واسعة وممتدة على الكوكب (شريط مثلا يمر بعدة دول)، هذا لا يمكن أن يُعَدّ توقُّعا، لأن عدد الزلازل كبير، وهناك مناطق بالفعل أكثر احتمالا لتلقي الزلازل، يجب أن تكون الادعاءات محددة تماما بالوقت والمقياس والموضع كما أسلفنا. الأرض تشهد سنويا العديد من الزلازل المؤثرة، ومن ثم، ليضع لنا الرجل عددا من التوقعات المحددة، ثم ننطلق في تطبيق نظريته.
يعني ذلك أن ما وصل إليك لم يكن سوى تنبؤ واحد ناجح من آلاف التنبؤات، ألا يعني ذلك أن ما حدث يمكن أن يكون مجرد مصادفة؟ في الحقيقة هناك مفهوم ربما يساعدنا في إدراك تلك الفكرة، إنه قانون الأعداد الكبيرة حقا (Law Of Truly Large Numbers)، الذي ينص على أنه في عينة ضخمة بما يكفي يمكن لأي حدث مهما كان شاذا أن يحدث، أحد أشهر التعليقات التي نقولها دلالة على ضعف احتمال ما هو “مرة في المليون”، لكن في شعب عدد أفراده 20 مليون فرد مثلا، هناك بالفعل 20 فرصة لوقوع حدث ما لا يقع إلا لشخص واحد من كل مليون فرد.
العبث بنظرية الاحتمالات
يعني ذلك أنه في أي تجربة أو بحث، كلما ازداد عدد المشاركين في العينة أصبحت الاحتمالات الضعيفة أقرب للتحقق، هذه اللعبة تحديدا تُستخدم في الاحتيال، لنفترض أن أحدهم على الإنترنت يعمل منجّما، أخبرك أنه سيتمكن بنسبة 100% من توقع 10 لفات للعملة ستجريها على التوالي، سيقول: “صورة”، ثم تلف العملة للأعلى، وترى أنها بالفعل قد أظهرت الصورة بعد سقوطها، ثم سيقول: “كتابة”، وتجد أن العملة بالفعل أظهرت الكتابة بعد سقوطها، ثم بعد 10 مرات من الاحتمالات لن يطلب أي شيء منك، فقد حصل بالفعل على مراده، وهو أنك أصبحت تؤمن به، وفي المستقبل ستطلب منه الكثير من الخدمات، لأنك متأكد أنه يمتلك قدرة ما خارقة!
الآن دعنا نتأمل الأمر من منظور أعلى، هذا المحتال لا يلعب مع شخص واحد فقط، بل مع نحو 2500 شخص، ومع كل واحد منهم، فإنه يتنبأ عشوائيا بالاحتمال القادم، حيث يضع احتمال “صورة” لنصف العدد (1250 شخصا)، واحتمال “كتابة” للنصف الآخر، سيصيب في بعض الحالات، وفي بعضها الآخر لا، هؤلاء الذين اكتشفوا خداعه سيتركون اللعبة، أما بالنسبة إلى البقية فإنه سيستمر في اللعبة نفسها، حيث يتنبأ لنصف المتبقين بـ”صورة”، والنصف الآخر “كتابة”، وهكذا تستمر السلسلة في التقدم، بحسب نظرية الاحتمالات فإن احتمالية التنبؤ بعشر لفات صحيحة متتالية هو 1 لكل 1024 حالة، ما يعني أنه في 2500 حالة ستكون هناك احتمالية مناسبة أن ينجح، إنها حالتك أنت.
لو افترضنا -مثلا- أنك في كل عام تضع عشرات التنبؤات السياسية في منشورات على فيسبوك، لتكن مثلا: “الرئيس القادم سيُقتل في عامه الثالث”، أو “سيدة من المعارضة ستستولي على الحكم”، أو “ستسقط الحكومة في العام الثاني من انتخابها” إلخ، ثم في مرة من المرات تحقق أحد تلك التنبؤات، هنا يمكن لك إبراز هذا التنبؤ أمام الجمهور، ثم تُدلّل من خلاله على حنكتك السياسية، أو ربما تقول إنك “نوستراداموس” العالم المعاصر، إلا أن الصورة الأكبر تتضمن مئات التنبؤات التي توقعتها على مدى سنوات طويلة، وكلها كانت خاطئة، كل المطلوب أن تسمح نظرية الاحتمالات بحدوث واحد منها حتى تصبح نجما إعلاميا جديدا.
المنجمون أيضا يتلاعبون بهذه الفكرة، فيطلقون مئات التنبؤات، في المجمل يُتوقع أن يحدث واحد منها، إلا أن احتمال حدوث كلٍّ منها على حدة ضعيف جدا، لكن المنجم في هذه الحالة يُخفي كل ما سبق من تنبؤات، ويبرز هذا الجديد، فيتسابق الناس لتصديقه.
يعيدنا ذلك للسؤال المهم: هل يمكن أن يكون ما حدث مع الخبير الهولندي هو شيء شبيه، فالرجل ببساطة يلقي بالعديد من التوقعات سنويا وصادف أن أحدها حصل؟ حسنا، لو تأملت الأمر قليلا لوجدت أن ذلك هو الاحتمال الأقرب للصواب، فتوقعات الرجل السابقة (الكثيرة) وتلك التي حددت المقياس والوقت ومكان الزلزال لم تنجح، ناهيك بأن توقعاته العامة لا تتفق مع المعايير الثلاثة للتنبؤ بالزلازل (الوقت والمقياس والمكان)، ويمكن لأي أحد القيام بتوقعات من نوع “زلزال قريب هنا” أو “نشاط زلزالي محتمل خلال أول مارس” كما أسلفنا، بما في ذلك كاتب هذا التقرير أو حتى أنت مع بعض القراءة الموسعة.
نحن إذن لا نحاول أن نهاجم الخبير الهولندي حينما نقول إنه -بما يفعل- يروّج للأكاذيب، لكننا فقط نقصد أنه حينما يكون الحدث كبيرا جدا ونود أن نصل للحقيقة يجب أن نبدأ بتنحية عوامل الصدفة والتحيز، ومن ثم علينا أن نطالب الخبير الهولندي بعدد من التوقعات المحددة جدا كي نختبر نتائج نظريته، في الحقيقة فإننا يجب أن نفعل ذلك مع كل صاحب فرضية جديدة من هذا النوع.
التنبؤ بالزلازل
يأتي ذلك كله في سياق مهم، وهو أن التنبؤ بالزلازل يعد حقا عملية غاية في التعقيد، حدوث التصدعات في الصخور التي ترتبط بالزلازل يرتبط بعدد كبير من العوامل التي لا يمكن العلماء إجمالها في نظام تنبؤ دقيق، فمثلا قد تتداخل بعض الصخور بعنف لكنها تكون لينة بما يكفي لتحمُّل الصدمات، أو قد تكون جافة بما يكفي لتتحطم فور اصطدامها وتتسبب في زلزال كبير، ولا يمتلك العلماء أي طريقة للتنبؤ بحالة تلك الصخور التي تمتد على مدى آلاف الكيلومترات.
أضف لذلك أن تلك التصدعات لا تتحرك داخل الصخور باتجاه واحد، بل تتشعب مثل فروع الشجرة، حدوث تلك التشعبات يتعلق بطبيعة كل قطعة صخرية داخل القشرة الأرضية ودرجة حرارتها، وهو أمر من الضخامة والتعقيد بحيث لا يمكن دراسته بشكل كامل.
في الحقيقة، فإن سُمك القشرة الأرضية يتراوح بين 30-70 كيلومترا في القارات، بينما يبلغ 6-12 كيلومترا في أعماق المحيطات، ولا يمكن للعلماء الوصول لهذا العمق في كل مكان من أجل دراسته، فأعمق حفرة تمكن البشر من حفرها بلغت 12 كيلومترا فقط، وهي بئر كولا العميق، وكان مشروعا علميا لاستكشاف قشرة الأرض أجراه علماء الاتحاد السوفيتي في السبعينيات.
كل هذا ولم نتحدث بعدُ عن أثر الجاذبية الأرضية الذي يختلف من مكان لآخر، وحركة طبقة الوشاح أسفل طبقة القشرة، وهي الطبقة التي تقع بين نواة الأرض الكثيفة شديدة الحرارة وقشرتها الخارجية الرقيقة، يبلغ سمك طبقة الوشاح حوالي 2900 كيلومتر، وهي تتنوع في درجات الحرارة والرطوبة واللزوجة بشكل يؤثر على القشرة السابحة فوقها بالأعلى.
إلى جانب ذلك فإن طبيعة تحركات الصفائح الصخرية المكونة لقشرة الأرض (الصفائح التكتونية) والتي تتسبب في غالبية الزلازل غير مفهومة بالكامل، فهي حركة بطيئة جدا وتبدو بالنسبة إلى العلماء عشوائية تماما، ومن ثم فإن تداخل أي منطقة بين الصفائح التكتونية لإحداث الزلازل هو أمر -نظريا- ممكن في أي وقت.
عالم من الخرافات
لكن يظل ما فعله الخبير الهولندي مُهمّا في توضيح الفارق بين ما هو بديهي وبين المنهج العلمي في التفكير، لأننا في خضم الأحداث الكبرى تحديدا ننزع إلى التوتر والخوف، فنفتقد التفكير العقلاني، ونقع في أسر التفكير غير السليم. سنقول في أنفسنا: “رجل يتنبأ بالزلزال الكارثي الذي قتل أكثر من 50 ألف شخص، لا يمكن أن يكون ذلك مجرد صدفة”، لكن القواعد البسيطة لنظرية الاحتمالات تقول إن ذلك ممكن جدا.
في الواقع، وخلال الفترة السابقة، كانت قصة الخبير الهولندي هي أقل الأخطاء الشائعة في الفهم وطأة، فقد سافر الأمر لخرافات بحتة، عن الكائنات الفضائية والتحكم بالزلازل عن طريق أجهزة خفية تمتلكها مجموعة من الأشرار، بل وتطور الأمر لفرضيات حول ظهور الدجال ونهاية العالم!
الأسوأ من ذلك هو كم الرعب الذي يحيط بكل هذه الفوضى، لقد تلقى محرر ميدان في القسم العلمي عشرات الأسئلة من أناس خائفين حقا على حياتهم خلال الفترة القصيرة الماضية، منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تقول إن هناك تسونامي قريبا، وأخرى تتحدث عن زلازل كبرى قادمة لتركيا ومن جنوبها بلادنا العربية، وبعض الناس قالوا في رسائلهم إنهم لا ينامون ليلا خوفا من الزلزال القادم.
في سياق الكوارث الكبرى، يصاب الجمهور بصورة غير مَرضية من اضطراب ما بعد الصدمة، تنتشر الأفكار السلبية عن نفسك أو الآخرين أو العالم، ويصبح اليأس من المستقبل قاعدة أساسية، يشيع الشعور بالذعر أو الخوف بسهولة، ويكون هناك انتباه دائم لوجود خطر، تستغل هذه الحالةَ الكثيرُ من الصفحات، بل والمنصات الإخبارية، للترويج لكل ما يتسبب في الرعب، حتى لو كان غير مبني على قاعدة علمية رصينة.
ومع الأسف، فإن العديد من المنصات الإخبارية العربية انساقت وراء الخبير الهولندي وتنبؤاته المثيرة للجدل، وروجت لخرافات التسونامي والزلازل الكبرى القادمة، دون النظر حتى إلى ما يقوله العلم في هذه القضايا، ولم تدرك هذه المنصات كمّ الألم والرعب الذي تنشره في سبيل الحصول على المزيد من القراء والمشاهدين.
* المصدر: موقع عرب جورنال
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع