أول محكمة للمسلمين .. قصّة جامع عمرو بن العاص، ثاني أقدم الآثار الإسلامية
السياسية:
غالباً ما يُشار إلى جامع عمرو بن العاص على أنه أقدم الآثار الإسلامية في مصر وإفريقيا، لكن التاريخ يقول غير ذلك. فقد ذكرنا في تقريرٍ سابق، أن مسجد سادات قريش، الذي بَناه عمرو بن العاص أيضاً في مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية، هو أول المساجد التي أنشئت بعد الفتح الإسلامي لمصر في العام 18هـ.
أنشئ جامع عمرو بن العاص سنة 21هـ/641م، حين لم تكن فنون العمارة الإسلامية نضجت بعد، وكان الهدف الأساسي بناء مسجدٍ صغير يصلّي فيه الجنود المتمركزون في الفسطاط، بعدما نجحوا -تحت قيادة عمرو بن العاص- في فتح العريش، ثم بلبيس، إلى أن وصلوا إلى الفسطاط وجعلوها عاصمة البلاد.
في ذلك الوقت، كانت الفسطاط تقع داخل حدود مدينة القاهرة الحديثة، وكان جامع عمرو بن العاص أوّل ما بُني داخل هذه العاصمة.
ولعلّ هذا ما يبرّر واقع أنه لم يتبقَّ من أثر الجامع القديم الذي بناه عمرو بن العاص، سوى موقعه واسمه ورمزيته التاريخية. فقد عاصر الجامع نحو 13 قرناً من التغيّرات، فقد نشأ متواضعاً وبسيطاً قبل أن يزدهر ويُذاع صيته، وتبلغ مساحته 13 ألفاً و200 متر مربّع.
اختار القائد ابن العاص، مكاناً مميزاً لإنشاء مسجد في وسط مدينة الفسطاط يطل على النيل، وكان عبارة عن حديقة مملوكة لقيسبة بن كلثوم، تبرّع بها. وقد حدّد، مع جنوده، مساحته بما يقارب 323 متراً. شيّدوه من الطوب اللبن، وصنعوا له 6 أبواب، وحُمّل سقفه المنخفض على سوارٍ من جذوع النخل، كما فُرشت أرضه بالحصباء. بقيت جدران الجامع من دون طلاء، ولم يكن لديه صحنٌ، وألحقوا به بئراً للوضوء.
قيل إن عمرو بن العاص بنى منبراً عالياً للخطابة، فأمره عُمر بن الخطاب بإزالته؛ منعاً لأن يكون الخطيب أعلى من المصلّين، قائلاً له: “أما يكفيك أن تقوم قائماً والمسلمون جلوس تحت عقبيك؟”، ويُقال أيضاً إنه أعاد بناءه بعد وفاة ابن الخطاب.
اختار عمرو شرق الجامع ليبني فيه بيته، وجعل بينه وبين سور الجامع طريقاً عرضه 7 أذرع. وقد استُخدم الجامع في بداية الأمر كمقرٍّ لاجتماع المسلمين وقوات عمرو بن العاص، وكانوا أقلية في ذلك الوقت، وشارك عدد من صحابة رسول الله في بناء هذا المسجد، مثل الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت.
عُرف الجامع بعدّة أسماء، منها “الجامع العتيق” و”تاج الجوامع”، حتى استقرّ على اسمه الحالي، جامع عمرو بن العاص. ومع مرور الزمن صارت له أهمية روحية كبيرة للمصريّين عبر التاريخ.
ترميمات جامع عمرو بن العاص قبل الحريق
شهد المسجد تجديدات وتوسّعات كثيرة، ما زالت مستمرّة حتى اليوم، فقد هُدم وأعيد بناؤه أكثر من مرة. كانت البداية في عهد مسلمة بن مخلد الأنصاري، والي مصر من قبل معاوية بن أبي سفيان، حين أضاف إليه أربع مآذن.
ثم جاءت تعديلات أخرى في عهد قرة بن شريك، والي مصر أثناء خلافة الوليد بن عبد الملك الأموي، بين عامَي 709 و715، حين زاد في مساحته وأنشأ فيه محراباً مجوّفاً، ومنبراً خشبياً ومقصورة.
وفي الدولة العباسية إبان حكم المأمون، أمر الوالي عبد الله بن طاهر بتوسعة المسجد حتى وصل إلى 112 متراً؛ أما في عهد الدولة الطولونية، فأعاد خمارويه ابن طولون بناء الأجزاء التي تمّ هدمها.
في عهد الدولة الإخشيدية، زادت أعمال الزخرفة من طلاء بالذهب والفضة ونقوش الفسيفساء. ولاقى الجامع عناية خاصة من الخلفاء الفاطميين، فزوّده الحاكم بأمر الله بمصابيح وربعات وبتنورٍ فضّي ضخم.
وفي سنة 438هـ، أمر الخليفة المستنصر بالله ببناء منطقة من الفضّة في صدر المحراب الكبير، وجعل لعموده المحراب أطواقاً من الفضّة؛ كما زود بعد ذلك بأربع سنوات بمقصورة خشبية، وبمحراب متنقل من خشب الساج المنقوش بعمودين من الصندل.
انتهى الازدهار الذي عرفه الجامع في العصر الفاطمي، بكارثة الفسطاط الشهيرة، عندما أُحرقت المدينة في سنة 564هـ خلال النزاع بين الوزيرين شاور وضرغام. فقد خاف شاور من اقتحام الصليبيين لمصر، وحرقها لأنه لم يكن باستطاعته مواجهتهم، ما أدّى إلى تدمير المدينة وإهمال جامع عمرو بن العاص بعد تشعّث جدرانه وانهيار أسقفه.
الفسطاط.. المدينة المركزية في العصر الفاطمي
كانت الفسطاط، كما تشير مراجع تاريخية كثيرة، مركز القوة بمصر في ظلّ الدولة الأموية، التي بدأت مع حكم معاوية الأول، وترأس الخلافة الإسلامية من عام 660 إلى 750.
حينها، كانت مصر تعتبر فقط مقاطعة كبيرة، يحكمها من تمّ تعيينهم من مراكز إسلامية أخرى، مثل دمشق والمدينة المنوّرة وبغداد. كانت الفسطاط مدينة رئيسية، وقد وصل عدد سكّانها في القرن التاسع إلى 120 ألف نسمة.
لكن عندما استولى القائد جوهر الصقلي، من الفاطميين القادمين من شمال إفريقيا، على المنطقة؛ أسَّس مدينة جديدة شمال الفسطاط في عام 969، وأطلق عليها اسم القاهرة. وفي عام 971 نقل الخليفة الفاطمي المعز لدين الله الفاطمي بلاطه من مدينة المنصورية إلى القاهرة.
بقيت الفسطاط عاصمة مصر، من حيث القوة الاقتصادية والإدارية، وازدهرت المدينة ونمت بحيث شكّلت ثلث مساحة بغداد تقريباً في عام 987، كما كتب الجغرافي ابن حوكال. بلغت مدينة الفسطاط ذروتها في القرن الـ12، حيث بلغ عدد سكّانها ما يقارب مليوني نسمة.
لكن في عام 1168 وقع حريق الفسطاط بالتزامن مع نهاية الخلافة الفاطمية، فأتى على كلّ المدينة، ولم يبقَ منها إلا بعض من مسجد عمرو بن العاص. ولولا هذا الحريق، لبقيت آثار أخرى من الفسطاط.
كيف وقع الحريق؟
نشب صراعٌ مرير على الوزارة، في عهد الخليفة الفاطمي العاضد بالله، بين الأمير شاور، حاكم الصعيد، والأمير ضرغام أمير فرقة من الجند المغاربة. كان الاثنان يحاولان أن يصلا إلى كرسى الوزارة، ولو على جثة الآخر، والخليفة العاضد يقف متفرجاً يكيد لأحدهم تارةً، ثم ينقلب عليه تارة أخرى.
بلغ الصراع بين الأمراء ذروته عندما استغلّ شاور أطماع الصليبيّين فى مصر، ورغبتهم في إقامة إمارة صليبية فيها، فأرسل يحثّهم على مناصرته ضدّ ضرغام مقابل أن يدفع لهم ثلث إيراد مصر.
فانتهز أموري، ملك بيت المقدّس الصليبي، هذه الفرصة وسار بجيشه إلى مصر بدعوى أن شاور لم يدفع له الضريبة المتفق عليها. فاستنجد شاور بالأمير نور الدين محمود لينقذه من الصليبيّين هذه المرة.
لكن نور الدين كان يدرك لعبة شاور، وتغليبه مصالحه الشخصية على مصلحة البلاد، فقرّر أن يتخلّص من شاور نهائياً وينقذ -في الوقت نفسه- مصر من الوقوع بيد الصليبيّين. فأرسل جيشه بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي ليتخلص نهائياً من شاور والحكم الفاطمي الشيعي والتهديد الصليبي، قبل أن يضمّ مصر إلى الشام تحت إمرته.
وجد شاور نفسه في مواجهة جيشين، الصليبي ونور الدين محمود. ولمّا عرف أن ملكه زائل، عمد إلى اللعب على الطرفين، حيث قام بدفع ثلث ريع مصر (إجمالي الناتج المحلي) إلى نور الدين محمود ليحميه من الصليبيّين، وفي الوقت نفسه قام بتحذير “أموري” من قدوم جيش نور الدين ليكسبه في صفّه.
وبهدف عرقلة دخول الصليبيّين إلى القاهرة، أمر أهل الفسطاط بترك بيوتهم ومحالهم والانتقال إلى القاهرة التي بناها المعز، وحرق المدينة بأكملها. بقيت النيران مشتعلة فيها 54 يوماً، وكان يمكن رؤية النار من على مسيرة 3 أيام، فسقطت المدينة في حالةٍ سيئة لسنوات وضاع كل أثر لها، باستثناء بعض من جامع عمرو بن العاص.
ترميمات جامع عمو بن العاص ما بعد الحريق
لم يُتح النشاط الحربي المتزايد في العصر الأيوبي للجامع بأن ينعم بأعمال إصلاح مهمّة، إلا مرّةً واحدة على يد صلاح الدين الأيوبي الذي أمَرَ بإعادة إعمار المسجد من جديد، وإن جدّده سلاطين وأمراء المماليك خمس مرات.
بعد أقل من أربع سنوات حَكَم صلاح الدين الأيوبي مصر، فأعاد بناء صدر الجامع والمحراب الكبير، وكساه بالرخام، ونقش عليه نقوشاً حسنة، منها اسمه. ثم جاءت التجديدات التي تمّت خلال حكم والي مصر مراد بك، في الدولة المملوكية، حيث قام بتجديد سقفه وفرشه.
ويذكر الجبرتي أن بعض اليهود أوعز إليه أنه سيجد كنزاً ضخماً عند تجديده للجامع، وهو ما دفعه إلى تجشم أعباء هذه العمارة. فقد تمّ الترميم على صورة غير علمية، من دون أي تخطيطٍ هندسي، ما ألحق ضرراً بهيئة المسجد وبعض أجزائه.
كما شهد الجامع توسعات في عهد محمد علي باشا، الذي قام بإصلاحه وأعاد إليه صلاة الجمعة من جديد؛ وفي العام 1899 قام ديوان الأوقاف بتجديد سقف الإيوان القبلي وبعض من الإيوان الغربي، إضافة إلى ترميم جدرانه وفرش أرضه بالبلاط. وفي 1940 قامت لجنة حفظ الآثار العربية بإصلاحٍ شامل بالجامع.
يتألف تخطيط الجامع الآن من صحن أوسط مكشوف تحدق به أربع ظلات للصلاة، أكبرها وأعمقها ظلة القبلة التي تتكوّن من 7 أروقة، حُملت عقودها على أعمدة رخامية تمّ نقلها من عمائر قديمة. أما الظلتان الجانبيتان فتتكوّن كلّ واحدة منهما من 5 أروقة، في حين يبلغ عدد أروقة الظلة الخلفية 7.
كان للمسجد دور علمي رائد أيضاً، وعلى مدى قرون. فقد ألقى فيه الإمام الشافعي دروسه،
والليث بن سعد أيضاً، كما خطب فيه العز بن عبد السلام.
إضافة إلى وظيفته كمسجدٍ يؤدي فيه المسلمون الصلوات، عرف جامع عمرو بن العاص وظائف أخرى. فقد كانت به أول محكمة لفضّ المنازعات الدينية والمدنية، وكانت تعقد جلساتها في الجانب الغربي منه.
وبحسب موقع “CNN العربية”، فقد أُطلق على أماكن حلقات دروس كبار العلماء بالجامع اسم “زوايا”، فعُرف درس الإمام الشافعي بزاوية الإمام الشافعي، إضافة إلى الزاوية المجدية نسبةً إلى واقفها مجد الدين أبي الأشبال بن الحارث بن مهذب الدين. ووصل عدد الحلقات إلى 110 والتي كانت تدرّس المذاهب.
كما كان يقام بالجامع حلقات دروس ووعظ للسيدات، تصدّرتها في أيام الفاطميين على عهد الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، واعظة زمانها أم الخير الحجازية، لكن الجامع توقّف عن أداء وظيفة التدريس منذ القرن التاسع الهجري (15م).
كذلك.. فقد كان في الجامع بيت المال؛ وبحسب الرحالة ابن رسته، فقد كان مكانه أمام المنبر، وهو شبه قبة عليها أبواب من حديد. وبقي جامع عمرو بن العاص، لحين احتراق الفسطاط في نهاية العصر الفاطمي، مقراً لعقد المزايدات حول قبالات الأراضي الزراعية، أي أداء حقوق خراجها لبيت المال ثم متابعة تحصيل ذلك من الفلاحين والمزارعين.
ومنذ زمن الفاطميين، هناك تقليدٌ رسمي سنوي لم يتخلَّ عنه الولاة والخلفاء والفقهاء، بحيث كانوا يقصدونه لأداء صلاة الجمعة الأخيرة في رمضان.
شهد المسجد أحداثاً كثيرة في التاريخ المعاصر، أهمها:
– الزلزال المدمّر الذي هزّ مصر في أكتوبر/تشرين الأول 1992، فأُصيبت بعض أعمدة جامع عمرو بن العاص وحيطانه بشروخٍ وتصدّعات، لكن هيئة الآثار المصرية رمّمته.
– انهيار نحو 50 متراً من سور حرم الجامع في 25 مارس/آذار 1994، فأقامت هيئة الآثار سوراً خرسانياً بارتفاع ستة أمتار حول الجامع ومرافقه لتدعيمه.
– في 24 مارس/آذار 1996، انهار 150 متراً من سقف المسجد في الجزء الجنوبي الشرقي بإيوان القبلة. وقد تمّ فكّ إيوان القبلة وإعادة البناء، مع تصويب الأخطاء المعمارية التي نتجت عن تجديدات “مراد بك”.
* المصدر: عربي بوست