كيف يأكل الناس البترول ويشربونه كل يوم؟
تحليل : طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية
منذ أن اندلعت نيران الحرب بهجوم روسيا على أوكرانيا قفزت أسعار النفط بمعدلات كبيرة استجابة للمخاوف من أن الحرب ستقلل العرض بشكل كبير (رويترز)
مع ارتفاع أسعار النفط إلى أكثر من 110 دولارات للبرميل خلال الأسابيع الأخيرة، يجد كثير من الناس صعوبة في فهم كيف يتسرب ارتفاع أسعار الطاقة إلى الأسعار التي يدفعها المستهلكون مقابل المواد الغذائية والألعاب والإلكترونيات ومستحضرات التجميل والأسمدة، وتقريباً كل منتج آخر يمكن أن يخطر على البال، لدرجة أن علماء الاقتصاد يقولون إننا نشرب ونأكل البترول كل يوم، ولكن لماذا يبدو ذلك صحيحاً من الناحية المجازية، وأحياناً الحرفية، وكيف دخلت مشتقات النفط في مختلف أوجه حياة البشر؟
المعنى المجازي والحرفي
منذ أن اندلعت نيران الحرب بهجوم روسيا على أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي، قفزت أسعار النفط بمعدلات كبيرة استجابةً للمخاوف من أن الحرب ستقلل العرض بشكل كبير، فقد ارتفع سعر نفط الخام الأميركي إلى أعلى مستوى في 13 عاماً، ووصل إلى 130 دولاراً أميركياً في السادس من مارس (آذار) الماضي قبل أن يتأرجح عند معدل 110 دولارات خلال الأيام الأخيرة، وهذا أعلى بنسبة 60 في المئة مما كان عليه في منتصف ديسمبر (كانون الأول)، قبل أن تتصاعد المخاوف من الحرب، وأدى ذلك إلى ارتفاع تكلفة البنزين، والتي بلغت متوسط 4.30 دولار للغالون الواحد (3.78 ليتر) في الولايات المتحدة خلال الأسبوعين الماضيين، لكن ما يحدث في أسواق النفط لا يبقى أبداً في أسواق النفط، بل يمتد إلى السلع والخدمات كافة.
وأصبحت الطاقة أحد الأسباب الرئيسة للتضخم، والذي يقصد به زيادة مستدامة ومعممة في أسعار السلع والخدمات في الاقتصاد، وتظهر أحدث البيانات، أن الأسعار ترتفع بوتيرة سنوية تبلغ 7.9 في الولايات المتحدة، وبنسبة متقاربة في بريطانيا، وغيرها من الدول في العالم، كنتيجة مباشرة لارتفاع أسعار البترول، وهو ما يجعل علماء الاقتصاد يذكرون الناس بشكل مجازي أنهم يأكلون البترول ويشربونه كل يوم، من خلال استهلاكهم المتزايد لمنتجاته التي تدخل في كل شيء تقريباً، على الرغم من أن المعنى الحرفي للكلمة ثبتت صحته أيضاً، بعدما خلصت دراسة أجراها الصندوق العالمي للطبيعة، ونشرتها وكالة “رويترز”، إلى أن كثيراً من الناس يتناولون قدراً ضئيلاً من البترول عن غير قصد، إذ يتناولون ما يعادل بطاقة ائتمان بلاستيكية أسبوعياً، أو ما يعادل 2.5 كيلو غرام كل 10 سنوات من جزيئات البلاستيك النانوية غير القابلة للتحلل البيولوجي، والتي يصعب اكتشافها، وقد تنتقل إلى الدم أو الجهاز اللمفاوي، وينتهي بها المطاف داخل أعضائنا، ومع ذلك، فإن ما يأكله الناس ويشربونه من البترول كتعبير مجازي أكثر خطراً وتأثيراً عليهم من المعنى الحرفي، لأنه يمس حياتهم بشكل مباشر.
ما الفرق بين النفط الخام والمنتجات البترولية والبترول؟
على الرغم من أن مصطلحي النفط والبترول يستخدمان بشكل تبادلي للتعبير عن شيء واحد، فإن الدقة تقتضي تحديد مفاهيمهما بشكل أوضح حسب ما تحدده إدارة معلومات الطاقة الأميركية، فالنفط الخام هو خليط من الهيدروكربونات، الذي يوجد كسائل في التكوينات الجيولوجية الجوفية، ويبقى سائلاً عند استخراجه إلى السطح، أما المنتجات البترولية فتأتي من معالجة النفط الخام والسوائل الأخرى في مصافي البترول، ومن استخراج الهيدروكربونات السائلة في مصانع معالجة الغاز الطبيعي أو خلال عمليات المزج، لكن تعريف البترول يُعد أوسع وأشمل، فهو يشير إلى كل من النفط الخام والمنتجات البترولية.
طائرات وعبوات تغليف
وتؤثر أسعار البترول على أسعار السلع والخدمات الأخرى بطرق عدة، لكن أكثر الأمور الواضحة تتمثل في أن البترول يغذي كوقود سائل، الغالبية العظمى من السيارات والطائرات والمركبات الأخرى التي تحرك الأشياء، فعلى سبيل المثال، استخدمت الولايات المتحدة 71 في المئة من إجمالي استهلاكها البترولي عام 2020 الذي يقدر بنحو 6.6 مليار برميل في أنواع مختلفة من الوقود، مثل الغاز والديزل ووقود الطائرات، وهي عبارة عن 123 مليار غالون من بنزين المحركات (337 مليون غالون يومياً)، ونحو 166 مليون غالون من وقود الطائرات، ويستخدم المستهلكون الأميركيون البنزين في السيارات والمركبات الرياضية والشاحنات الخفيفة والدراجات النارية، والمركبات الترفيهية والقوارب، والطائرات الصغيرة، كما يستخدم في تشغيل المعدات والأدوات المستخدمة في البناء والزراعة والغابات وتنسيق الحدائق، فضلاً عن مولدات الكهرباء للإمداد بالطاقة.
ويؤدي هذا عندما ترتفع أسعار البترول إلى زيادة تكاليف النقل، ويجعل شحن كل شيء من مكونات الثلاجة إلى العناصر اليومية الضرورية، مثل معجون الأسنان، أكثر تكلفة، وفي حين يمكن للشركات أن تختار تحمل الفارق في التكلفة إذا كانت سوقها شديدة التنافسية، إلا أنها عادة ما تمرر فارق السعر إلى العملاء، وبخاصة إذا كانت لها حصة كبيرة من السوق، لكن البترول يُعد أيضاً عنصراً أساسياً في كثير من الأشياء التي يشتريها الناس، سواء في العبوات والتغليف، أو في المنتجات نفسها، وبخاصة الطعام، حيث تستهلك هذه العناصر نحو 29 في المئة من كمية البترول الأخرى المستخدمة في الولايات المتحدة.
منسوجات وإلكترونيات
وتُستخدم البتروكيماويات المشتقة من البترول في صناعة الملابس وأجهزة الكمبيوتر وغيرها من الصناعات الإلكترونية الحيوية، وعلى سبيل المثال، تضاعفت كمية البوليستر المرتكز على البترول في الملابس منذ عام 2000، وأصبح نصف الألياف المنتجة حول العالم تصنع الآن من البترول، ويستهلك إنتاج الألياف البلاستيكية للمنسوجات نحو 342 مليون برميل من النفط كل عام، وفقاً لتقرير اقتصاد المنسوجات لعام 2017 وفقاً لما نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية.
مستحضرات التجميل
بالإضافة إلى ذلك، تعتمد صناعة مستحضرات التجميل بشكل كبير على البترول لأن بعض العناصر، مثل كريم اليد والشامبو ومعظم مستحضرات التجميل مصنوعة من البتروكيماويات، ومثل العديد من المنتجات، توضع كل تلك الكريمات وسوائل التجميل في عبوات بلاستيكية تستخدم مرة واحدة مصنوعة من البترول، كما تعمل شركات النفط على إصدار منتجات للاحتياجات الصيدلانية ومستحضرات التجميل عبر استخدام تكنولوجيا تصنيع المحفزات وتقديم مرطبات ومطريات.
الألعاب البلاستيكية
وبالمثل، فإن الغالبية العظمى من الألعاب المنتجة اليوم للأطفال مصنوعة من البلاستيك خفيف الوزن والمرن والملون، والذي يُعد اقتصادياً وسريع الإنتاج، وهو من المنتجات البترولية، ولكنها مصنوعة بالكامل تقريباً من البلاستيك الصلب على عكس عبوات زجاجة المياه التي لا تزيد كتلة البلاستيك فيها على اثنين في المئة من إجمالي وزنها، بينما يحتوي مطبخ الألعاب على 5.6 كيلو غرام من البلاستيك الصلب، أي ما يعادل 400 زجاجة مياه بلاستيكية فارغة.
وكشفت دراسة استقصائية في بلجيكا عام 2017 عن أن أفضل خمس ألعاب في المنزل مصنوعة أساساً من البلاستيك “البولي إيثيلين” و”البولي بروبيلين”، وأن 90 في المئة من الألعاب الأكثر شعبية مصنوعة بالكامل من البلاستيك.
المواد الغذائية
وتُعد صناعة المواد الغذائية حساسة بشكل خاص لأسعار الطاقة، أكثر من أي قطاع آخر لأن البترول يعد عنصراً رئيساً في سلسلة التوريد الخاصة بها في كل خطوة على الطريق، من الزراعة والحصاد إلى المعالجة والتعبئة والتغليف، ومن المثير للاهتمام أن أكبر استخدام للبترول في الزراعة الصناعية ليس النقل أو آلات التزود بالوقود، بل استخدام الأسمدة، حيث يتم استخدام كميات هائلة من البترول والغاز الطبيعي في الأسمدة والمبيدات الحشرية التي تستخدم في إنتاج وحماية الحبوب والخضراوات والفواكه، وهذا أحد الأسباب التي تجعل الأمر يتطلب 283 غالوناً من البترول لإنتاج كمية تزن 1250 رطلاً (نحو 566.25 كيلو غرام) من المحاصيل، الأمر الذي يجعل حتى رغيف الخبز يتطلب كمية عالية من الطاقة بشكل غير عادي.
ويُعد البترول أيضاً أحد مكونات الطعام الذي نستهلكه، ويُعرف المنتج الغذائي الرئيس الذي يأتي من البترول بالزيوت المعدنية، والتي تستخدم عادةً لجعل الأطعمة تدوم لفترة أطول لأن البترول لا يفسد، وغالباً ما تحتوي السلع المخبوزة المُعبّأة مثل البسكويت والبيتزا على زيت معدني كوسيلة للحفاظ على مدة صلاحيتها لفترات أطول، كما تستخدم البتروكيماويات أيضاً في صناعة أصباغ الطعام.
أما شمع البرافين، وهو شمع عديم اللون أو أبيض مصنوع من البترول، فيستخدم في إنتاج بعض الشوكولاتة، ويُرش على الفاكهة لإبطاء تلفها ومنحها لمسة نهائية لامعة، كما أنه يساعد على بقاء الشوكولاتة صلبة في درجة حرارة الغرفة، وعلاوة على ذلك، يشكل البلاستيك جزءاً أساسياً من تغليف المواد الغذائية، لأنه رخيص نسبياً ومتين وخفيف الوزن، ويوفر الحماية والصحة، وهو أحد المنتجات البترولية المعروفة.
البترول والاقتصاد
ولكل هذه الأسباب ظل البترول بالنسبة لكثير من الدول المستهلكة له مهماً للغاية، وبخاصة بالنسبة للاقتصاد الأميركي الذي اعتبر البترول مصدر قلق كبيراً منذ أزمة النفط عام 1973، عندما ارتفعت الأسعار، ما أدى إلى ارتفاع المطالب للحفاظ على الطاقة.
ومنذ ذلك الحين، انخفضت كمية النفط المستهلكة مقابل كل دولار من الناتج الاقتصادي بنحو 40 في المئة، فعلى سبيل المثال، كان تحقيق ما قيمته 1000 دولار من الناتج الاقتصادي عام 1973، يتطلب أقل من برميل واحد من البترول، أما اليوم فإنه يتطلب أقل من نصف برميل، الأمر الذي يعتبره الاقتصاديون أمراً جيداً، لكن السيئ هو أنه نظراً لأن الاقتصاد الأميركي الآن أصبح أكبر 18 مرة مما كان عليه عام 1973، فإنه يتطلب الكثير من النفط ليعمل بكفاءة، وهذا هو السبب في أن ارتفاع أسعار النفط هو المحرك الرئيس الآن للتضخم، وارتفاع الأسعار، ولهذا أيضاً ينتظر أن يرفع مجلس الاحتياط الفيدرالي، وهو البنك المركزي الأميركي، أسعار الفائدة لمكافحة الزيادة المطردة في الأسعار، وما تفعله الولايات المتحدة ينطبق على غالبية الدول، وبخاصة المستهلكة بكثافة للطاقة والبترول الذي يثبت أنه لا غنى عنه، وأن العالم سيظل يأكل ويشرب البترول لسنوات أخرى مقبلة.
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من موقع الاندبندنت