مبادرات فردية لتأمين مأوى للحيوانات الشاردة في لبنان
على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي دفعت كثيرين إلى تغيير سلوكهم
بشير مصطفى
بين أزمة اقتصادية شديدة الوطأة، وسلوك متهور لدى بعض اللبنانيين، ازدادت حدة معاناة الحيوانات البرية والأليفة. واتخذ هذا السلوك أشكالاً مختلفة، من التخلي عن الحيوانات بسبب عدم القدرة على رعايتها وتركها وحيدةً تلاقي مصيرها في الشارع، إلى القيام بتسميم بعض الحيوانات البرية وقتلها، وصولاً إلى “شيوع الصيد للتسلية خارج المواسم”.
في المقابل، انتشرت في أماكن مختلفة من البلاد مبادرات إنسانية لرعاية الحيوانات ومساعدتها على تجاوز هذه المرحلة القاسية. ومن هذه المبادرات ما صوره الفيديو الذي تناقله رواد مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يرصد “اتباع أحد المواطنين ضبعاً ذهبياً وجعله يعود إلى المنطقة الخارجية في عكار”. لقد شكل هذا الأمر تغييراً في سلوك مواطنين بعد انتشار عمليات قتل الضباع في فترات سابقة من هذا العام.
الخبز لطيور الحمام
في ساحة التل في مدينة طرابلس (شمال)، وعند ساعات الظهيرة، يتكرر مشهد ينم عن رقي كبير، رجل في العقد السادس من العمر، يترجل عن دراجته الهوائية لينثر الخبز في الأرجاء ويطعم طيور الحمام وقد ألفته. يلتزم “رجل الحمام” الصمت، وينشغل في إطعام الطيور. ويذكر أصحاب البسطات في المكان أنه “يحضر يومياً، وعند إتمام مهمته يغادر الساحة بعد تأكده من أن طيور الحمام شبعت”. يتحلق المارة في المحيط لمراقبة لوحة من لوحات الرحمة التي يرسمها هذا الرجل، وطيور الحمام التي تغط على أكتافه وبين يديه.
هذه الحالة ليست وحيدة، إذ بدأ كثيرون في ظل الأزمة إحضار الطعام ونشره في زوايا الأحياء والشوارع من أجل إطعام الحيوانات الشاردة. وهذا المشهد يقدم شكلاً من أشكال الاستجابة الإيجابية لدى فئات واسعة من اللبنانيين في محاولة لتخفيف معاناة الكائنات البريئة.
مركز علاج الطيور
انتقلت المبادرات من إطار المساعدة الظرفية إلى الإطار المؤسساتي، مع مجموعة من الناشطين البيئيين.
في هذا الإطار، تبرز مبادرة ميشال صوان الذي أنشأ منذ عامين مركزاً لرعاية وعلاج الطيور الجارحة في منطقة زغرتا. ينطلق صوان في حديثه عن مبادرته، من أنه صياد في الأصل، وكان يعثر أحياناً في البرية على طيور جريحة تركها الصيادون لأنها لا تؤكل، مشيراً إلى أنه “كان يحضرها إلى منزله لرعايتها، إذ شيد قفصاً مساحته 6 أمتار، ويطلقها عندما تصبح قادرة على الطيران.
في عام 2011، طور صوان الفكرة بالتعاون مع أحد رفاقه، إذ بدأ جمع الطيور الجريحة. ويلفت إلى أن هذه الجهود لم تكن تظهر إلى العلن، إلا أنه مع تعمق الأزمة الحالية “أصبحت عملية الرعاية والإطعام مكلفة للغاية، إذ بدأ أشخاص من مناطق بعيدة يحضرون الطيور لرعايتها وعلاجها”. ويكشف أنهم تلقوا دعماً لوجيستياً من الدولة البولندية بسبب اهتمامهم بالحفاظ على طير “اللقلق” المهاجر.
أقام صوان مركزه في ضيعة بيئية بامتياز، يقطنها قرابة 33 شخصاً، وتنتشر فيها الغابات، وقد شيده بين أشجار الصنوبر من أجل تأمين عوامل الراحة للطيور. ويحتضن المركز 45 نسراً، و15 طيراً من اللقلق. وبعد معالجة الطيور يطلق المركز الطيور. ويشير صوان إلى أنه استقبل في 2021، أكثر من مئة طائر، لم ينج البعض منها، فيما عانى كثير منها إعاقة دائمة.
وتتم رعاية الطيور على نفقة صوان الخاصة، وعلى قاعدة “بحصة بتسند خابية” تلقى المركز مساعدات عينية من فرنسا وألمانيا، وحصل على الأدوية والمشدات.
يحاول صوان بجهود فردية ومتواضعة مواجهة تيار الصيد الجائر، و”القواصين” أي الصيادة الذين يصطادون في أشهر السنة كلها للتسلية، ويتباهون بأفعالهم وينشرون صورها على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يحترمون المعايير البيئية ومواسم الصيد والقوانين. الأمر الذي دفع وزير البيئة ناصر ياسين إلى عدم افتتاح موسم الصيد بسبب الصيد الجائر.
ويعتقد صوان أن المدخل لحل مشكلة الصيد الجائر، هو نشر الوعي في أوساط الشباب والناشئة، لأن “قتل الطيور ليس فشة خلق، ولا مبرر له”. ويطالب بتطبيق القوانين وإنزال أشد العقوبات بمخالفي القوانين. ناهيك بتحديث القوانين ومنع استخدام الأدوات الخطرة كالدبق والشباك والكهرباء والليزر، وفرض رقابة على المحال التي تتاجر بالأفراخ والطيور البرية الممنوعة، وتبيع الخرطوش الكبير. ويدعو إلى مكافحة “جامعي اللحم” الذين يصطادون ليلاً من أجل بيع الطيور، ويقومون بعملية الغش، إذ “يصطادون اليمام والدوري والبلبل، ويخلطونها مع العصافير من أجل بيعها”. و”هذا ينم عن ضمير فاسد، ولا بد للدولة من قمعهم ومنع بيع اللحوم في السوبرماركت والمنطقة الحرة”.
يطمح صوان الذي فاز بجائزة “بيردلايف” في الشرق الأوسط لتصوير الطيور المهاجرة، إلى الوصول إلى ترميم المنظومة البيئية في لبنان وترك الفرصة للطيور من أجل التكاثر بالطرق الطبيعية. ويقول “عوضاً عن دفع 250 ألف ثمناً لعلبة الخرطوش، أقترح على البعض شراء الطعام والذهاب بنزهة برية مع رفاقهم من دون اصطياد الطيور”.
مأوى القطط المنزلية
إلى جانب تجربة صوان لمعالجة الطيور الجارحة ورعايتها، تبرز مبادرة الشاب علاء زيتونة لتأمين المأوى للقطط المنزلية، والطعام للحيوانات الشاردة في الشوارع.
يشير زيتونة (33 سنة) إلى أنه منذ سنتين بدأ استقبال الحيوانات التي تحتاج إلى الرعاية في محله الواقع في الميناء طرابلس، حيث أمن العلاج والرعاية لعدد كبير من القطط والكلاب والطيور (الببغاء وأبو زريق). وقام بإطلاق بعضها بعد تماثلها للشفاء.
يقول علاء إن عدداً كبيراً من الناس استغنوا عن الحيوانات المنزلية بسبب عدم القدرة على تأمين الطعام الذي بات غالي الثمن، وكلفة الرعاية والاهتمام، لافتاً إلى أن “إشاعة نقل القطط فيروس كورونا كانت سبباً في استفحال الظاهرة بسبب الخوف من الإصابة”.
ويتحدث زيتونة عن مرور تجربته في مرحلتين، في الأولى عرض بعض الحيوانات للتبني، مؤكداً أنه “كان في متابعة حثيثة مع طالبي التبني، وكنت أتصل بهم أسبوعياً، وأتفاجأ بأن البعض كان يترك الحيوانات من دون مأوى ويخرجها من المنزل إلى الشارع”. أما في المرحلة الثانية، فقد انتقل إلى رعايتها في محله وتأمين الطعام لها.
ويلفت علاء إلى شكلين من الرعاية، ففي ما يتعلق بالحيوانات المنزلية التي لا تتكيف مع حياة الشارع وتبقى منزوية بسبب خوفها من الحيوانات الأخرى، يحضرها إلى محله في الميناء، ويؤمن لها المكان والمأكل والمشرب والعناية الطبية، مستفيداً من الخبرات التي اكتسبها خلال إقامته في أفريقيا على يد أطباء سويديين. أما بالنسبة إلى الحيوانات وهررة الشوارع التي اعتادت على الإقامة في الخارج، فيقوم بتوزيع الطعام لها في زوايا الأحياء لتستمر على قيد الحياة، و”كل ذلك على نفقته الخاصة التي أصبحت ذات أعباء عائلية”.
ويشير زيتونة إلى تأثير الأزمة على بعض أنشطته لتربية الحيوانات البرية ورعايتها، فقد كان يعمل مروضاً لطيور الببغاء ومعالجاً للطيور، إلا أن جميع الأنشطة توقفت بسبب عدم توافر الكهرباء، لأن “الدفء ضروري لاستمرارها على قيد الحياة”.
يشدد زيتونة على أن “الحيوانات البريئة ليست للتسلية، لأنها أرواح تحتاج إلى الرعاية، ولا بد للأفراد من التمتع بالوعي لحاجات القطط والكلاب الطارئة خلال موسم التزاوج، وتتغير أمزجتها في بعض الفصول”. ويستهجن الاتجار بالحيوانات. فبحسب زيتونة، فإن “الصوص، الأرنب، والبسينات ليست ألعاباً للتسلية، وإنما هي أرواح، وأنصح الأهالي الذين ليس لديهم القدرة على رعايتها إلى إحضار دبدوب لأبنائها”.
ويدعو إلى الحفاظ على الحياة الاجتماعية للحيوانات. ويلفت إلى أن هررة الشوارع تتقاسم السيطرة على الشوارع، فكل هر لديه منطقة خاصة به.