أمينة خيري

ما العلاقة بين واحدة من أطول عظام الجسد وهي الممتدة من المرفق إلى الرسغ والست؟ أو بين “شلولو” الملوخية المجففة والثوم والشطة؟ أو بين اللحم المفروم والبصل والبيض المسلوق وحجر الأم؟ أو بين قطعة الدجاج الكبيرة وكرات اللحم المفروم والقاضي وجماعته؟ أو بين الست ورموشها ودرجة الحلاوة؟ بل ما العلاقة بين الفتق والسكر والكثافة؟ أو بين المخ والتمخيخ والطبيخ؟

أساس العلاقة واحد في كل ما سبق. جميعها يمر عبر “الحنك” فيسده. وما “سد الحنك” وسمنه وسكره ودقيقه إلا خير مثال على أكلات جميلة تحمل أسماء غريبة والكثير منها لها نصيب من أسمائها.

سد الحنك

مكونات حلوى “سد الحنك” التي يقال إنها في الأصل تركية لكن المصريين اعتنقوها منذ مئات السنين تسد الحنك فعلياً. هذه الحلوى ذات السعرات الحرارية المتفجرة ومكونات السكر والدهون والكربوهيدرات تصيب آكلها بالكسل والسكوت لفرط الشعور بالثقل عبر انتهاء لحظات السعادة الأولى الناجمة عن مرورها عبر الحنك ومنها إلى الشرايين والأوردة التي كثيراً ما تنأى بحمل ما فيها شحوم ودهون.

دهون أقل نسبياً وشحوم أخف بعض الشيء تحملها “أم علي” التي يتفنن البعض خلال السنوات الأخيرة في تجهيزها بحليب قليل الدسم أو سكر بني أو قدر أقل من المكسرات والزبيب، لكنها تظل على قائمة أكثر الحلويات شهرة ومدعاة للتفكه، لا سيما بين النساء اللاتي أنجبن أولاداً اسمهم “علي”. ولحسن الحظ أن كثيرين لا يعرفون أن “أم علي” تعود إلى الحلوى التي صنعتها الزوجة الأولى لعز الدين أيبك وأم ابنه علي ابتهاجاً بنجاحها في قتل ضرتها “شجرة الدر” السلطانة التي حكمت مصر ضرباً بالقباقيب، فأطلق على الرقائق والسكر واللبن والسمن “أم علي”.

مفشش في حجر أمه”

أمهات كثيرات ورد ذكرهن في أسماء الأكلات. وحين يقول أحدهم أنه يحب الـ”مفشش في حجر أمه”، فإنه لا يعني سخرية أو حتى دعابة. لكنه يقول إنه أكل الأكلة الجزائرية “مفشش في حجر أمه” أي “مدلل في حجر والدته” والمجهزة باللحم المفروم والطماطم والتوابل وأعجبته. وربما يأكل معها “سكران طايح في الدروج” هذا الطاجن الجزائري أيضاً، الذي سمي بذلك بسبب عدم تناسق المكونات وغرابة خلطها ببعضها البعض مثل اللحم المفروم واللحم الشرائح والبيض والحمص، وهي أكلات تتفنن في صنعها الأمهات في الجزائر.

ومن “أم علي” المصرية وغيرها من الأمهات إلى الآباء مثل “أبو شلهوب” السوري وما يحمله من كوسة وبرغل ولحم  و”أبو بسطي” السوري أيضاً ويقطينه وحمصة ولحمه المسلوق وأبو فروة وسبل أكله مشوياً أو بعد إضافة الكراميل أو تمركزه وسط الشوكولا، يأكل ملايين العرب هذه الأكلات يومياً من المحيط إلى الخليج  وهي تحمل أسماء غريبة ووراء كل منها قصة فريدة.

ستي زبقي

تفرد الأكلات العربية بحملها ألقاب الأهل لا يقف عند حدود “أم علي” أو “أبو شلهوب”، بل يمتد إلى الأجداد وتحديداً الجدات حيث “ستي زبقي” السورية المصنوعة من المعكرونة والعدس واللحم، ويقال إن سيدة كانت تجهز الطعام وتساعدها جدتها التي كانت على خصام مع الجد، وحين دخل الجد فجأة وسأل عن الأكلة التي يجري تجهيزها، قالت الحفيدة، “ستي زبقي” أي جدتي اهربي، فاعتقد الجد أن هذا هو اسم الأكلة.

محاولة الحفيدة إنقاذ الجدة يؤكد أن “أعز من الولد ولد الولد”. و”ولد الولد” أكلة إماراتية شبيهة بالكافيار وتعتمد على سمك القرش في تجهيزها.

ولأصحاب المهن نصيب من أسماء الأكلات العربية. ولسبب ما يهيمن القضاة في هذا الشأن، وربما يعود ذلك إلى أن مهنة القضاء تحظى بالكثير من الاحترام ولها شأن كبير في المجتمعات العربية. في مصر يأكلون “لقمة القاضي” ويعشقونها حيث الكرات المصنوعة من الدقيق والماء والخميرة والمغموسة في العسل. ويقال إن تسميتها بهذا الاسم يعود إلى بغداد في القرن الـ13 حين كانت تقدم لقيمات بالسكر والعسل للقضاة حين يشعرون بالجوع ونظراً لسهولة أكلها لأن كلاً منها “لقمة” سميت “لقمة القاضي”. لكن لـ”لقمة القاضي” أسماء كثيرة أبرزها “زلابية”.

تعدد الأسماء للأكلة الواحدة ليس حكراً على “لقمة القاضي”. فهناك “المصابيب” أو “المراصيع” أو “المراقيش” وهي أكلة سعودية وتحديداً من منطقة نجد. وهي أشبه بالخبز الذي يمكن أن يؤكل مالحاً بالبصل أو حلواً بالسكر والعسل والفانيليا.

ويظهر القاضي مجدداً ولكن هذه المرة ليس وحده بل معه “جماعته”؛ إذ يتوسط المائدة الجزائرية حيث قطعة دجاج كبيرة في منتصف الصحن متمثلة في دوائر من اللحم المفروم. ويقال إن التسمية تعود إلى تبجيل القضاة ومن معهم من أشخاص يحكمون بالعدل ويحمون حقوق الناس، ولذلك كان يجري تسمية أطباق رئيسة بنسبها إلى مهن يحترمها الناس ويشيرون إليها بالبنان أي أطراف الأصابع.

الأصابع المحروقة

وتلعب الأصابع دوراً محورياً في الأكل، سواء باستخدام أدوات المائدة أو باستخدام الأصابع نفسها للأكل. لذا لم يكن غريباً أن تجد الأصابع نفسها جزءاً من أسماء أكلات عربية.

المطبخ الدمشقي يقدم “حراق إصبعو” وهي أكلة صعبة تحتاج وقتاً وجهداً كبيرين لإعدادها. وكانت النساء في أزمنة سابقة تتعاون لإعداد هذه الأكلة التي تتكون من خبز وبصل وعدس ودبس رمان وتوابل عدة. وتتعدد الروايات حول سبب تسميتها بهذا الاسم، لكن الروايتين الأشهر تشيران إلى أن النساء اعتدن حرق أصابعهن أثناء تذوق الأكلة وهي في القدر على النار فسميت بذلك، أو أن امرأة فقيرة لديها ابن وابنة فقدت مالها أثناء عودتها إلى البيت وكانت تحمل عدساً وتمر هندي، ولم تجد مالاً تشتري به الطعام للصغيرين. فوضعت العدس ومعها تمر الهندي في قدر على النار، فما كان من الصغير إلا أن لمس القدر فتعرض إصبعه للحرق.

أصابع أخرى لكن لحسن الحظ لم تحرق هي “أصابع زينب”. وتتعدد الروايات حول التسمية، لكن جميعها ينسبها إلى السيدة زينب بنت الحسين كنوع من التكريم لها إما عقب معركة “عين جالوت” أو “كربلاء”.

ويظل للغزل نصيب في أسماء الأكلات، و”رموش الست” نموذج حلو المذاق ناعم القوام. ويقال إن هذه الحلوى المصنوعة من الدقيق والسمن والسكر تعود إلى فترة ولاية مصطفى بربر أغا المولود في عام 1767 على طرابلس والذي أقام حفلاً في قصره وقدم الطاهي حلوى على شكل “رموش النساء” فاقترح أحد الحاضرين أن تتم تسميتها “رموش الست”.

المنسف واللحم بالحليب

وعلى رغم هذا الكم من القصص الغريبة المرتبطة بالأسماء الغريبة للأكلات، إلا أن “المنسف” يظل الأغرب. وعلى رغم انتشار “المنسف” في أغلب الدول العربية، فإنه مرتبط بفلسطين والأردن بشكل كبير ويعد من التقاليد الأردنية، فلا تخلو منه مائدة حفل أو عرس أو عيد. ويقال إنه سمي بهذا الاسم لأنه قائم على “الجريش” (القمح المطحون خشناً) ولم تكن هناك قبل عقود طويلة أدوات لفصل القمح، فكان يتم اللجوء إلى “نسفه”. ويقال إنه تم ابتكار “المنسف” لتخالف العقيدة اليهودية التي تحرم طهي اللحم في اللبن، وهي ركن أساس من طريقة عمل “المنسف”.

يشار إلى أنه في منتصف التسعينيات وقت بدأ السياح الإسرائيليون يزورون الأردن، أقبل صاحب مطعم يقع على بعد أمتار من سفارة إسرائيل في عمان على تقديم قائمة طعام “كوشير” (الطعام الحلال في اليهودية) للسياح القادمين. وقتها قال إن الشيء المؤسف الوحيد في الموضوع هو اضطراره للتخلص من طبق “المنسف” الشهير الذي كان يقدمه، وذلك لأن اليهود لن يأكلوا في مطعم يخلط اللبن باللحم.

ولا تخلو الأسماء الغريبة من ضلوع في عالم الطب والصحة، ولو من باب الجدل. فقبل أشهر وفي أثناء اللغط الذي يسود العالم حول وباء “كوفيد-19” وصراع اللقاحات وحرب المتحورات، خرج طبيب مصري في برنامج تلفزيوني ليؤكد أن “الشلولو” قادر على مواجهة كورونا ودرء خطرها وإصابتها في مقتل، وهو ما أثار الكثير من السخرية التي لا تخلو من غضب، نظراً لافتقاد المكون العلمي في معادلة الملوخية الجافة والثوم وفيروس كورونا.

ويظل العرب يأكلون أكلات بعضها يحمل أسماء عادية، والآخر يحمل أسماء غريبة أو طريفة أو تأتي محملة بقصص وعجائب من زمن فات وتذوق مستمر.