السياسية:

إعلان روسيا عزمها التخلص مما تبقى لدى صندوقها السيادي للثروة بالدولار قبل أيام من القمة المرتقبة بين الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن ليس قراراً اقتصادياً فقط.

ويعمل الكرملين منذ سنوات على فصل الاقتصاد الروسي عن العملة الأمريكية التي لا تزال تمثل حجر الزاوية للتجارة الدولية، على أساس أن الدولار يجعل موقف روسيا أضعف في مواجهة العقوبات التي تفرضها واشنطن.

ومنذ تولت الإدارة الديمقراطية برئاسة بايدن مقاليد البيت الأبيض خلفاً لإدارة دونالد ترامب، شهدت العلاقات بين موسكو وواشنطن منحنى هبوط متسارع للغاية، وصل إلى حد سحب روسيا سفيرها لدى واشنطن على خلفية فرض أمريكا عقوبات على روسيا بسبب سجن المعارض أليكسي نافالني وزيادة الحشود الروسية على حدود أوكرانيا.

ماذا قررت روسيا أن تفعل؟

روسيا أعلنت، على لسان وزير المال أنطون سيلوانوف الخميس 3 يونيو/حزيران، عن عزمها تصفية كل أصول الصندوق السيادي الوطني من الدولار وتبديلها باليورو والذهب واليوان الصيني، وذلك خلال شهر واحد.

ويشكل الدولار حالياً نسبة 35% من أصول هذا الصندوق السيادي البالغة نحو 186 مليار دولار، وهو ما يعني أن نحو 40 مليوناً منها سيتم تحويلها من الدولار إلى عملات أخرى أو ذهب خلال تلك الفترة القصيرة.

فقد نقلت وكالات الأنباء الروسية عن سيلوانوف قوله خلال المنتدى الاقتصادي في سان بطرسبرغ: “قررنا على غرار البنك المركزي تقليص استثمارات الصندوق السيادي الوطني بالدولار”، مضيفاً أنه سيتم تبديل أصول الدولار باليورو والذهب (للمرة الأولى) واليوان الصيني “بسرعة، خلال شهر”.

وتهدف الخطة التي تم الإعلان عنها إلى أن يمتلك الصندوق السيادي الروسي في نهاية المطاف أصولاً موزعة على النحو التالي: 40% منها باليورو و30% باليوان (عملة الصين) و20% بالذهب و5% بالجنيه الإسترليني (عملة بريطانيا) و5% بالين الياباني.

قرار سياسي بامتياز

توقيت الإعلان عن الخطوة- التي تبدو اقتصادية بالطبع- يجعلها سياسية بامتياز، بحسب المحللين، إذ تأتي قبل القمة الأولى وجهاً لوجه بين بوتين وبايدن والمقررة 16 يونيو/حزيران الجاري في جنيف بسويسرا، ومن المنتظر أن تكون ساخنة وعاصفة، على أقل تقدير.

فبايدن وصف بوتين بالقاتل ورد بوتين بالمثل، وذلك على خلفية قضية نافالني القابع حالياً خلف القضبان في موسكو، مما أعاد للأذهان أجواء الحرب الباردة دون مقدمات. وقبل أيام فقط، قررت إدارة بايدن عدم العودة لاتفاقية “السماوات المفتوحة” التي كانت إدارة ترامب قد انسحبت منها، في إشارة أخرى على أن تهدئة الأمور بين البلدين ربما لا تكون واردة.

وفي هذا السياق، قال النائب الأول لرئيس الوزراء أندريه بيلوسوف- تعليقاً على قرار تصفية الأصول الدولارية- إنه “قرار حكيم ويرتبط بأمور عدة بينها التهديدات بفرض عقوبات التي تلقيناها من المسؤولين الأمريكيين”.

وهو ما عبر عنه أيضاً الخبير الاقتصادي تيموثي آش في تغريدة على تويتر: “أعتقد أنها حيلة دعائية أو ضربة وقائية في إطار فرضية عقوبات أمريكية جديدة مقبلة”، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله الألماني.

وعبر سيلوانوف نفسه عن ذلك بشكل مباشر بقوله عبر التليفزيون الروسي: “العامل الجيوسياسي حاضر بالتأكيد (خلف القرار). إننا نحاول حماية استثماراتنا”، بحسب تقرير لوكالة بلومبيرغ الأمريكية.

ويمكن صياغة ذلك بصورة مباشرة أكثر بالقول إن بوتين لا يريد أن يدخل تلك القمة مع بايدن بينما توجد نقاط ضعف تجعل الرئيس الأمريكي أكثر قدرة على ممارسة الضغوط على الزعيم الروسي في ملفات متعددة من المنتظر أن يتناولها اللقاء المرتقب.

ماذا عن الشق الاقتصادي إذاً؟

توجد أكثر من نقطة مرتبطة بالشق الاقتصادي للقرار الروسي وتبعاته المنتظرة على روسيا والولايات المتحدة وحركة التجارة الدولية بشكل عام. ويتضح ذلك، على سبيل المثال، من تأكيد بيلوسوف النائب الأول لرئيس الوزراء الروسي على أن القرار لن يكون له أي تأثير على سعر الصرف.

كما أفادت مذكرة نشرها الخميس مصرف “آي إن جي” أن “ذلك (تصفية الأصول بالدولار) سيتم داخلياً بين الحكومة (الروسية) والبنك المركزي”، مشيرة إلى أن “تراكم العملات الأجنبية سيتواصل في المستقبل”، وأضافت المذكرة أن هذا الإعلان أقرب إلى أن يكون سياسياً.

وعن تأثير القرار الروسي على الدولار، حققت العملة الأمريكية مكاسب في بداية تعاملات الخميس 3 يونيو/حزيران قبل أن تتراجع قليلاً في أعقاب الإعلان الروسي، بينما قال محللون لبلومبيرغ إن التأثير المباشر لخطوة موسكو على السوق على الأرجح سيكون محدوداً.

وقالت صوفيا دونيتس الخبيرة الاقتصادية الروسية إن “البنك المركزي الروسي يمكنه إحداث تلك التغييرات التي يريدها صندوق الثروة دون اللجوء لعمليات من خلال أسواق المال”.

ووصفت إلينا ريباكوفا، نائبة مدير المعهد الدولي للتمويل في واشنطن، الخطوة الروسية بأنها “رمزية إلى حد كبير”، مضيفة: “لكن في حالة حدوث تصرف مماثل من جانب مالكين أكبر لأصول بالدولار الأمريكي، يصبح الأمر مختلفاً بالطبع”.

ويرى أوليغ فويغين مسؤول كبير سابق في البنك المركزي الروسي أن “هذا القرار منطقي في سياق المواجهة العنيدة من جانب روسيا مع الولايات المتحدة. لكن فيما يخص حسابات العائد/ المخاطر، استبدال الأصول الدولارية الموجودة حالياً بالعملات الأخرى على الأرجح لن يكون جذاباً من الناحية الاقتصادية”.

هل تخشى موسكو من العقوبات؟

الخطوة الروسية إذاً اقتصادية من حيث الشكل، سياسية من حيث المضمون والتوقيت، وكلمة السر هنا هي العقوبات الأمريكية. فعلى الرغم من اللغة التصالحية التي تبنتها إدارة بايدن تجاه موسكو خلال الأسابيع القليلة الماضية، تظل فرضية إقدام واشنطن على فرض مزيد من العقوبات على موسكو واردة في ظل أجواء الحرب الباردة السائدة بينهما.

وفي هذا السياق تسعى موسكو إلى تقليص النفوذ الذي تتمتع به العملة الأمريكية من خلال اعتماد العملات المحلية في التعاقدات الضخمة، خصوصاً مع الصين وإيران وغيرهما من الدول الأخرى المعرضة للعقوبات الأمريكية.

وقال نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك الخميس إن روسيا قد تميل قريباً إلى الابتعاد عن عقود الخام المقومة بالدولار الأمريكي إذا استمرت إدارة بايدن في فرض عقوبات اقتصادية مستهدفة.

وقال نوفاك لموقع CNBC في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي: “حسناً من الناحية المثالية، نفضل عدم الابتعاد عن الدولار لأنه عملة دولية”. وأضاف: “لكن إذا خلق شركاؤنا الأمريكيون هذا النوع من المواقف، فلن يكون لدينا خيار آخر سوى القيام بذلك بشكل تدريجي”.

تعليقات نوفاك جاءت بعد وقت قصير من الإعلان عن تصفية أصول الدولار الأمريكي من صندوق الثروة السيادي الروسي بشكل كامل، وهو ما يشر إلى أن القرار الروسي على الأرجح يأتي في سياق أكبر هذه المرة. والخلاصة هنا هي أن بوتين يجهز لقمته مع بايدن بصورة تضع الزعيمين على قدم المساواة، رغم الفوارق الضخمة بين الولايات المتحدة وروسيا اقتصادياً على الأقل.

عربي بوست