السياسية: نجيب هبة

يمثّل تهديد “فيروس كورونا” تهديداً كارثياً لحياة البشر والاقتصاد العالمي.. لكن تأثيره الأخطر يبدو أنه سيطال النظام العالمي الحديث ليصبح في ذلك موازياً للحربين العالميتين وكذا سقوط الاشتراكية في تسعينيات القرن الماضي.

تماهت الحدود في هذه الأزمة العالمية الاستثنائية بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي مع ما هو صحي واجتماعي فيما تم تحييد مؤشر القوة العسكرية التي كانت شوكة الميزان في كل الحسابات العالمية وتحولت لمجرد عاملٍ مساعدٍ للجهود الصحية.

بالتوازي مع ذلك يبدو أن نظاماً عالمياً جديدًا يتشكل تحت رماد النار التي اشعلتها جائحة “كورونا” في العالم كله وهو ما بشر به كثير من المحللين والكتاب حول العالم سياسيين واقتصاديين وعسكريين.

دول وأنظمة كانت تعد قوية ومتطورة وقفت عاجزة أمام وباء كورونا وسرعة انتشاره حتى أن بعضها أعلنت فقدان السيطرة على الآثار الكارثية للجائحة تاركةً القول الفصل لذلك الفيروس الميكروسكوبي الصغير ليحدد مصير مستقبلها السياسي والاقتصادي ولعل إيطاليا صارت مثالاً حيّاً لهذا الانصياع الاجباري فيما تقف الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة النظام العالمي الحالي على أعتاب هذا الانصياع المثير ومن يدري كيف سيكون شكلها وموقعها على الخارطة السياسية الدولية بعد انقضاء أزمة هذا الوباء.

على النقيض من ذلك ظهرت دول أخرى كـ(الصين) كمثالٍ وحيدٍ حتى الآن كما لو أمتلك عصاً سحرية للسيطرة على الوباء وتمكنت من تحجيمه أو لنقل تجميد انتشاره على أقل تقدير وبدأت في عرض خبرتها لبقية دول العالم فيما بات يعرف ب “الدبلوماسية الصحية”.

التحرك الصيني لتصدير التجربة الصينية أدى إلى استياء مسئولين أوروبيين وامتعاضهم مما اعتبروه محاولة تمدداً جيوسياسي صيني تحت غطاء المبادرة الإنسانية.

على هذا الصعيد اتهمت وزيرة الدولة الفرنسية للشؤون الأوروبية أميلي دو مونشالان، الصين وروسيا باستغلال وإبراز مساعداتهما الدولية وفق تقرير لموقع الجزيرة على الانترنت.

وفي وقت سابق أعرب وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن استيائه من “الصراع العالمي المصاحب لهذا الوباء عن كيفية رواية الأحداث” و”الصراع على السلطة” القائم عبر “تشويه الوقائع وسياسة السخاء” غير حسن النوايا.

وذكّر الوزير الأوربي بأنه إذا كانت هناك اليوم “محاولات لتشويه سمعة أوروبا ففي يناير الماضي كانت الأزمة الصينية متركّزة في هوبي وتفاقمت بسبب إخفاء مسئولين صينيين معلومات أساسية”.. مضيفاً أن “أوروبا قدّمت المساعدة للصين كما تفعل الأخيرة اليوم”..

واعتبر بوريل أن الصين تقوم أيضا “بتمرير رسائل بشكل هجومي مفادها أنها على عكس الولايات المتحدة شريك مسؤول وموثوق”.

بينما اعتبرت الصين أن هذه الاتهامات الأوروبية “مثيرة للضحك” وردّت المتحدثة باسم الخارجية الصينية بالقول “سمعتُ مرات عدة الغربيين يذكرون كلمة “دعاية” بالنسبة إلى الصين وأرغب في أن أسألهم: عما يتحدثون تحديدا؟”

ونقل التلفزيون الصيني عن المتحدثة تساؤلها: “ماذا يريدون.. أن تبقى الصين مكتوفة اليدين أمام هذا الوباء الخطير..!”

ووفقاً لـ”الجزيرة نت” يشتبه أن تكون (الصين) القوة الآسيوية العظمى تستغل ما وصفه التقري بـ”دبلوماسية القناع” للتباهي بنموذج قوتها السياسي والاقتصادي الذي انفرد حتى الآن بالقدرة على السيطرة على هذه الجائحة العالمية.

بين هذا وذاك تحول وباء كورونا إلى أزمة سياسية فظهرت الاتهامات المتبادلة بتحمل مسؤولية ظهور ونشر الفيروس حيث اشتعلت ولا تزال نيران اتهامات متبادلة بين كلٍّ من الصين والولايات المتحدة الأخرى بأنها من أوجدت الفيروس.. أما الر حقيقة الوحيدة فهي أن الكورونا تحول إلى وباء عالمي وشغل كل دول العالم تقريبا ولا يزال وأدى الى استنفار الجهود السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية جنبا إلى جنب مع الجهود الصحية التي تقف بالطبع في وجه المدفع.

وفي أحدث فصول الاتهامات قالت بكين أن المسؤولين الأمريكيين يدلون بتعليقات “وقحة” تلقي بظلال من الشك على تقارير الصين عن حالات الإصابة بكورونا في البلاد.

ونقلت وكالة رويترز عن المتحدثة باسم الخارجية الصينية هوا تشون ينغ تأكيدها أن الصين تصرفت بطريقة منفتحة وشفافة بشأن تفشي الفيروس الذي بدأ في البلاد أواخر العام الماضي.. مضيفة أنه “يتعين على الولايات المتحدة التوقف عن تسييس قضية انسانية والتركيز بدلا من ذلك على سلامة شعبها”.

التصريح الصيني جاء رداً على تشكيك أميركي بحقيقة البيانات الصينية حول أعداد المصابين بالمرض عندما قال ترامب “لا نستطيع تأكيد الأرقام القادمة من الصين.. الأرقام الرسمية منخفضة وهناك تقارير أخرى تشير إلى عكس ذلك”.

يبدو أن الصين استفادت من هذه الأزمة لتعمل على تسويق نفسها كزعيم جديد للعالم يمتلك ما لا يمتلكه الذين يتزعمونه اليوم وذلك من خلال قدرتها اللافتة على احتواء الوباء ثم انتقالها السريع إلى مرحلة القضاء على آثاره بالتزامن مع تنسيق الاستجابة الدولية للأزمة وإرسال المساعدات الطبية والأطباء للدول الأكثر تضررا من الوباء بما فيها دول أوروبية والولايات المتحدة نفسها.

يعزز من هذا التوجه الصيني نحو التربع على عرش الزعامة العالمية ما يبدو أنه الفشل الأمريكي حتى الآن في امتصاص صدمة الانتشار السريع للوباء والعجز عن السيطرة على خارطة انتشاره في الولايات المتحدة بل والظهور السريع لعجز نظامها الصحي ومعاناته أمام النقص الشديد في أدوات وأجهزة وآليات مواجهة الوباء محلياً فضلاً عن قدرتها على مساعدة دول أخرى يفترض بأنها تنتظر يد العون من واشنطن المنشغلة بنفسها.

يزيد من اقتراب الصين من مركز قيادة دفة العالم الجديد السياسات المتسرعة والنظرة الاستعلائية للرئيس الأمريكي التي ستغير مركزية واشنطن في النظام العالمي ودورها القيادي فيه على الرغم من أنها حتى اليوم لا تزال في صدارته.

في المحصلة فإنه لا يمكننا على الاطلاق التقليل من مكانة الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والحديث عن سقوط العناصر والأذرع والظروف التي تجعلها تقود العالم لكن التغيير العجيب الذي فرضه وباء الكورونا على الواقع السياسي والاقتصادي العالمي يجعل كل شيءٍ ممكناً والقاعدة الأساسية أنه لا يوجد شيء مطلقٌ أو ثابت في السياسية وهي دائماً تحمل المفاجئات.

امتلكت الصين في العقدين الأخيرين مقومات الريادة العالمية فتطورت تجارياً وصناعياً بشكل ملفت ما أدى إلى وصفها بـ”مصنع العالم” ولا تخفي واشنطن مخاوفها من الطفرة الصينية التي تهدد موقعها في الاقتصاد العالمي لكن هذه الجائحة ربما وفرت لبكين البيئة التي لم تكن تحلم بتهيئها للتمدد نحو السيطرة على مركز قيادة العالم سياسياً والذي ينطلق دوماً من بوابة الانفراد الاقتصادي.

نجحت بكين في كسب كثير من المعارك الاقتصادية وسعت إلى تسويق نظامها سياسياً.. وجاء نجاحها في تخطي أزمة كورونا ثم استغلالها من الناحية الجيوسياسية لتعزز هذه النجاحات وتضعها في مقدمة دول العالم استحقاقاً للزعامة.

كان تغير الأنظمة العالمية في السابق ناتجاً عن القوة العسكرية التي تخرج من رحم الحروب العالمية والمصحوبة بتطورٍ علمي وصناعي واقتصادي رهيب لكن يبدو أننا اليوم على أعتاب نظام عالمي متغيرٍ وعجيب ستفرزه الأزمة العالمية الانسانية وما سيترتب على آثارها من نجاح أو فشل للأنظمة الصحية لكل دولة.

يبدو أن حرب الريادة التي لم تكن باردة بين الاقتصاديين الصيني والأمريكي قد وصلت لمرحلة اللاعودة سرّع من اقتراب معركتها الفاصلة “وباء الكورونا العالمي”  الذي يمكن أن تحدد نتائجه من الذي سيقود النظام العالمي الجديد.

هل ستصمد الولايات المتحدة الأمريكية في موقعها وتستمر في التفرد بقيادة النظام العالمي الجديد أم أن بكين ستتسلم دفة القيادة من واشنطن في ظل شبه توافقٍ عالميٍ على قبول الواقع الذي سيظهر بعد الخروج من الأزمة العالمية لجائحة الـ”كورونا”..!