السياسية – خالد الحداء:

بعد سقوط نظام القذافي، وتلاشي مؤسسات الجيش والأمن، ظهرت الجماعات والميليشيات المسلحة في مختلف المناطق ولم تجد القبائل بداً من القيام بدور المؤسسة الأمنية في الدفاع عن نفسها والمناطق التي تتواجد بها واصبحت المسؤولية الأمنية ملقاة بالكامل على كاهل القبائل بعد 2011 وهو ما أدى إلى تشكيل ما يسمى بـ”الميليشيات القبلية” من أبناء القبيلة سواء من منتسبي الجيش والأمن، أو من المدنيين.

بمرور الوقت توشحت تلك الميليشيات بلباس القبيلة، خاصة وأن أغلبها كان يتحرك في الإطار القبلي والمناطقي، وكان لمجموعة من الأحداث خلال المراحل المختلفة لثورة 17فبراير 2011 تأثير مباشر في انتشار ظاهرة الثأر السياسي والعنف العسكري، وساهمت المكاسب المادية والنفوذ التي حصلت عليها المليشيات القبلية في تصاعد عمليات الثأر القبلي التي انحصرت خلال العقود الماضية.

وفي وقت قياسي صار في كل مدينة ومنطقة  مجلس عسكري يمثلها، وأصبحت لكل قبيلة مجموعة من أبنائها لديهم كتائب مسلحة، وارتسمت مع مرور الوقت تحالفات قبلية، استدعت الذاكرة تلك التحالفات القديمة، وتشكلت المجالس العسكرية تحت مسميات مختلفه ولكن الطابع الجهوي والقبلي كان الاكثر وضوحا، وكان من الواضح استغلال المشاعر والسلوكيات القبلية من قبل غالبية النخب السياسية، التي سعت إلى أظهار الخطاب ذات البعد الوطني، ولكنها ترتكز في الواقع على توجهات ومحركات مناطقية وقبلية.

وتشير الأرقام المعلنة أن عدد الثوار خلال الحرب التي شهدتها البلاد في بداية الثورة يقارب30 ألف مسلح، ولكن هذا العدد أصبح الآن يفوق 200 ألف يتقاضون رواتب وامتيازات من الحكومة، ومع تسارع الاحداث وغياب افق للتوافق ظهرت مراكز قوى جهوية كبرى على النحو الآتي:

  • قوى الثوار في الشرق من قبائل ومدن برقة.
  • مجاميع مدينة مصراتة وحلفائها التي تزعمت ثورة الغرب الليبي.
  • إقليم فزان في الجنوب الليبي ممثلاً في قبائل أولاد سليمان.

يرى عدد من المختصين بالشأن الليبي أن الخارطة الاجتماعية في ليبيا ترتكز على الانتماء الاجتماعي الذي يقوم على النسبة والانتماء القبلي أكثر مما يكون قائما على التوجهات السياسية الوطنية، واعتمادا على هذا الفرز لم يكن غريبا أن تعمل النخب على التلويح بعودة التقسيم المناطقي القديم، فالمطالب التنموية والتمثيلية السياسية للمجموعات كانت كثيرا ما تستدعي هذا التقسيم، الذي كثيرا ما يتشكل من تحالفات تقوم على علاقات النسب والجوار القبلي.

وفي هذا السياق يقول الدكتور محمد نجيب بوطالب كاتب وباحث في علم الاجتماع ” أن المشروع الذي يهيأ له اليوم يسعى إلى استعادة تقسيم ليبيا إلى أقاليم ثلاثة، هي اقليم طرابلس في الغرب، واقليم برقة في الشرق، واقليم فزان في الجنوب. وأن الأوضاع الهشة اليوم، بملامحها السياسية والأمنية، مع التأجيج الخارجي ترشح الذهاب الى هذا المشروع بسبب عدم توافر بدائل وطنية توحيدية صلبة”.

ولم يكن النفوذ القبلي في ليبيا ما بعد ثورة فبراير 2011  سوى امتداد للدور السياسي الذي لعبته في تشكيل الحياة السياسية في ليبيا على مختلف المراحل، واعتمدت كافة الأنظمة السياسية، بدءاً بالعهد الملكي وصولاً إلى مرحلة الثورة مروراً بالجمهورية، على القبلية وما لديها من ميليشيات مسلحة في بناء تحالفاتها، فعلى سبيل المثال سعى نظام العقيد معمرالقذافي، خلال أكثر من أربعين عاما، على تواجد القبيلة بقوة تحت عباءة نظامه السياسي من خلال ما سمي بالـ المؤتمرات الشعبية، واللجان الشعبية، ومن خلال عمليات الاختيار الشعبي للقيادات، وانتشر في عهد القذافي ما يسمى بعملية “الكولسة”، وهي التنسيق والتشاور والاتفاق بين القبائل لتسمية أمين مؤتمر أو شعبية (محافظة)، وهو ما يعني أن الفائز بالمنصب لن يكون من خارج القبيلة.

وتعزز دور القبيلة على الساحة السياسية، التي كانت تشكو فراغًا كبيرًا، نتيجة غياب دولة القانون وانعدام القدرة على تكوين منظمات المجتمع المدني بما فيها الأحزاب والنقابات، وهو ما جعل القوى التقليدية كالقبيلة هي المظلة الوطنية المتاحة، التي يستطيع المواطنين من خلالها ممارسة الحياة العامة بصورة طبيعية إلى حدا ما، وهو ما انتج في المحصلة العامة زعامات اجتماعية تسعى إلى الحصول على الحقوق والوظائف، في مختلف أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، لأبناء القبيلة أو المنطقة.

كذلك عمل النظام على تشكيل تحالفات مع القبائل الكبرى وتوزيع الثروة والسلطة عليها، وهذا ما عرف بالمراهنة على البنية القبيلة، بهدف ضرب القبائل بعضها ببعض حيث كان يقرب قبائل لنظامه منها قبائل “القذاذفة والمقارحة وورشفانه وورفله والنوايل والصيعان” الواقعة في الغرب والجنوب الليبي ضد مجموعة القبائل في الشرق وخاصة قبائل السعادي وقبائل من الغرب في مصراته، ومختلف قبائل الأمازيغ في مناطق الزنتان وزوارة وجبل نفوسة.

ويرى العديد من المهتمين بالشأن الليبي أن ما يفسر اندلاع ثورة 17 فبراير في الشرق، دون غيره، هو ذلك الاستبداد والقمع والاضطهاد الذي مورس بحقهم، بالإضافة إلى الفارق الكبير بين ما كانت توفره السلطات من ميزانية للتنمية والتعليم والصحة في ذلك الإقليم مقارنة بطرابلس العاصمة والمناطق المؤيدة لنظام القذافي.

العملية السياسية ما بعد ثورة فبراير

بعد نجاح ثورة 17فبراير بالإطاحة بنظام القذافي استمر ما يسمى بالمجلس الوطني الانتقالي بقيادة مصطفى عبد الجليل في إدارة شؤون ليبيا، وخلال الاشهر التالية تم حل المجلس الانتقالي الذي اعُتبر زعامة سياسية خلال أشهر الثورة وحُل كذلك المجلس التنفيذي الذي مثل حكومة تسيير أعمال برئاسة الدكتور محمود جبريل، واعتمد بالمقابل ما سمي «الإعلان الدستوري» كنظام جديد للحكم، وهناك من يرى أن ما حدث شكل نقطة سلبية في المسار السياسي للثورة حيث اعُتبر ما حدث فصل رأس ثورة فبراير ومصدر ترشيدها أمام المجموعات السياسية والقبلية والمليشيات المسلحة، المنفلته، الراغبة بقوة في السلطة والثروة.

وبالعودة إلى العملية السياسية خلال 2012 والتي اجريت فيها أول انتخابات في ليبيا ما بعد الثورة كان من الواضح أن تأثير القبيلة مازال طاغيا على المشهد، حيث اعترضت بعض القبائل على توزيع الدوائر الانتخابية لكونها لا تتناسب مع طموحات القبيلة، يذكر أن عدد المقاعد في المجلس الوطني تشكلت من 200 مقعد وتوزعت جغرافيا على الغرب والعاصمة بمقدار نصف المقاعد فيما تحصل الشرق على 69 مقعدا والجنوب على 38 مقعد.

أقيمت الانتخابات البرلمانية في 7 يوليو 2012 بنظام الانتخاب المختلط، حيث خصص 40% من عدد المقاعد أي 80 مقعد للقوائم الحزبية، والنظام الفردي المستقل وخصص له 60% من عدد المقاعد بمقدار 120 مقعد.

وتصدر الانتخابات تحالف القوى الوطنية المحسوب على التيار الليبرالى وحصل على 39 مقعد وحل حزب العدالة والبناء المقرب من الإخوان المسلمين ثانيا على 17 مقعد، فيما سيطر على المقاعد الفردية الـ 120 الاعضاء المنتمين للعشائر والقبائل.

ويرى العديد من المراقبين أن نتائج الانتخابات البرلمانية أكدت أن البُعد القبلي والعشائري للمواطن الليبي قد تغلب على ما دونه من توجهات أخرى، حيث تعامل الناخبون مع مرشحيهم من منطلق العصبية والقرابة.

وفي 8 أغسطس 2012 سلم المجلس الوطني الانتقالي السلطة رسمياً إلى المؤتمر الوطني العام المنتخب، في خطوة اعتقد الكثيرون أنها سوف تنهي الصراع، وتنقل السلطة بصورة سهلة لحكومة منتخبة، تدخل البلاد في مرحلة الاستقرار السياسي.

تولى محمد يوسف المقريف رئاسة الدورة الأولى للمؤتمر الوطني العام، وتولى منصب رئاسة الحكومة بداية محمود جبريل حتى تاريخ 23 أكتوبر 2011، تلاه علي الترهوني، كرئيس حكومة مكلف، من 23 اكتوبر ولغاية 24 نوفمبر من نفس العام، فيما بعد أصبح عبد الرحيم الكيب رئيساً للوزراء وانتخب المؤتمر الوطني علي زيدان كرئيس للحكومة في نوفمبر 2012، وحجبت الثقة عن زيدان في مارس 2014.

أصبح وزير الدفاع عبدالله الثني، رئيساً للحكومة في 11 مارس ولغاية انطلاق ما سمي “بعملية الكرامة” “بقيادة اللواء خليفة حفتر” التي انقسم الشعب الليبي بشأنها ما بين معارض وداعم ولتدخل ليبيا مرحلة جديدة من الحرب مع ظهور أكبر للدور الخارجي في الصراع الليبي.

بوادر التقسيم .. حكومتان وبرلمانان

أعلنت لجنة الانتخابات بأنها ستعقد الانتخابات البرلمانية  في يونيو 2014، إلا أن اللواء خليفة حفتر أطلق في 16 مايو 2014 هجوماً في مدينة بنغازي، استهدف من خلاله الجماعات المسلحة داخل المدينة، وصفت الحكومة الليبية بأن هكذا أعمال تعد انقلاب على الحكومة الشرعية.

بالمقابل عملت الاطراف السياسية والجماعات المسلحة المعارضة للواء حفتر والداعمة للمؤتمر الوطني العام بإطلاق عملية عسكرية باسم (فجر ليبيا) للوقوف في وجه عملية الكرامة، وقامت بشن هجوم على العاصمة طرابلس لاستعادتها من سيطرة قوات حفتر، في العاصمة طرابلس، وبعد قيام حفتر بإطلاق عمليته العسكرية ضد المؤتمر الوطني العام، سارع السياسيون إلى اعطاء بعد قانوني لإقامة حكومة توالي قوات حفتر.

أجريت الانتخابات البرلمانية في اغسطس 2014 في ظروف أمنية بالغة التعقيد، أثير حولها الكثير من الشكوك والمشاكل، كون الانتخابات  عقدت مع تدشين موجة جديدة من الحرب الاهلية في مختلف المناطق الليبية، إضافة إلى ان الانتخابات لم يشارك فيها سوى 45% من الناخبين الذين يحق لهم التصويت والبالغ عددهم حوالي 7,2 مليون ليبي والمسجلة أسمائهم في سجلات الناخبين، وأسفرت الانتخابات عن فوز التيار المدني والفيدرالي بغالبية مقاعد المجلس منهم أعضاء سابقون في المؤتمر الوطني العام موالين للواء حفتر، فيما خسرت الكتل السياسية الأخرى الانتخابات، وعلى اثر نتائج الانتخابات البرلمانية انقسم الليبيون ما بين فريقان:

الأول/ المؤتمر الوطني العام الذي عُرف بمجلس نواب الذي انتخب المستشار عقيلة صالح عيسى رئيسا له، وفي 17 نوفمبر 2014 اعتراف مجلس النواب المنعقد في طبرق رسميا، بعملية الكرامة العسكرية بقيادة حفتر واعتبرها المجلس عملية كاملة الشرعية تابعة لرئاسة أركان الجيش الليبي والحكومة الليبية المؤقتة، وتعاظمت مكاسب اللواء خليفة حفتر خاصة بعد أن عيّن عقيلة صالح، بوصفه القائد الأعلى للجيش الليبي، خليفة حفتر قائدا عاما للجيش في مارس 2015.

الثاني/ المؤتمر الوطني العام الجديد، والذي بقي في رئاسته نوري أبوسهمين (الرئيس الأخير للمؤتمر الوطني العام)، وفيها تم تشكيل حكومة الانقاذ في مدينة طرابس برئاسة عمر الحاسي ومن ثم في مارس 2015 تم تعيين خليفة الغويل رئيساً للوزراء.

وفي اطار التصعيد المتبادل ما بين المؤتمر الوطني العام والبرلمان، دعا اعضاء المؤتمر إلى استمرار شرعية المؤتمر الوطني العام الذي تم حله وتسلم مهامه مجلس النواب الليبي عام 2014، معتبراً أنه الممثل الشرعي الوحيد للثورة الليبية.

ومع غياب تام لأي تسوية سياسية وعسكرية تحقن دماء الشعب الليبي تصاعدت المواجهات إلى أن وصلت للعاصمة طرابلس في ابريل 2019 لتستمر المعارك ما بين كر وفر بين الجانبين في محيط وداخل طرابلس إلى يومنا هذا.

الخلاصة

لعبت النزاعات ذات البُعد القبلي والجهوي، ما بعد ثورة فبراير، في إحداث شرخا واسعا في المجتمع والدولة الليبية، وتفاقمت المشكلة مع غياب الوعي الوطني الراسخ، ومع استمرار النزاعات وغياب الاستقرار السياسي خلال السنوات الماضية عملت بعض الأطراف الداخلية إلى أحياء المشروع، القديم، الذي يسعى لتقسيم ليبيا إلى ثلاث أقاليم ـ شرق وغرب وجنوب ، وساهمت التدخلات الخارجية في تعزيز هذا المشروع، وعلى الرغم من هكذا واضع يبقى الأمل في تحرك العقلاء والشرفاء من أبناء ليبيا في توجيه الرسائل الداعية إلى نبذ الخلاف وترك العصبيات القبيلة والجهوية في سبيل الحفاظ على الوطن والدولة الليبية وبأن التسوية السياسة تُمثل المسار الوحيد للخروج من الأزمة.