السياسية: محمد محسن الجوهري*

في لحظةٍ استثنائية من تاريخ الأمة، مشهدٌ مهيبٌ لا يمكن أن تصفه الكلمات، حيث احتشدت الجموع الغفيرة في وداع السيد حسن نصرالله، الرجل الذي شكّل وجدان المقاومة ورمز الكرامة. لم يكن مجرد تشييعٍ لشخص، بل كان تشييعًا لأمة، لمرحلةٍ، لفكرٍ متجذّرٍ في قلوب الملايين، ولحكاية نضالٍ امتدت لعقود.

من كل حدبٍ وصوب، خرجت الجماهير، لا فرق بين شيخٍ شابَ شعرُه على وقع الخطابات النارية، وبين شابٍ ترعرع على نهج المقاومة. كانت الجموع تسير كأنها مدٌّ بشريٌّ، لا تحدّه المسافات ولا تفرّقه الهويات. كانت الهتافات تنبع من أعماق القلوب، تختلط بالدموع، تعلو رغم الأسى، كأنها تجدد البيعة لنهجٍ لم يمت، بل ازداد تجذّرًا في الوجدان.

لم تكن هذه الحشود العارمة مجرّد أرقامٍ، بل كانت رسالةً حيّة، تعبّر عن نبض الشارع العربي والإسلامي، بل عن كل الأحرار في العالم. لم يكن التشييع مجرد وداعٍ، بل كان استفتاءً على رجلٍ باتت سيرته جزءًا من تاريخ الأمة، وشهادته توقيعًا على مسيرةٍ لا تنكسر.

هذا المشهد لم يكن لبنانيًا فحسب، بل كان عربيًا، إسلاميًا، وعالميًا. في كل زاويةٍ من الأرض، كان هناك قلبٌ ينبض بالحزن، يدٌ تُرفع بالدعاء، وعينٌ تذرف دمعةَ وداعٍ على رجلٍ حمل همّ الأمة. من فلسطين الجريحة، حيث صدى كلماته كان يحفّز المقاومين، إلى العراق وسورية واليمن، إلى كل شبرٍ عرف معنى الكرامة والحرية، كان الوداع وداعَ أمّة، بحجم الحلم الذي جسّده هذا الرجل.

إن كان التاريخ قد شهد رحيل قادةٍ كبار، فإن وداع السيد حسن نصرالله ليس نهايةَ مسيرةٍ، بل بداية مرحلةٍ جديدة، تتجذر فيها الفكرة أكثر، ويشتدّ فيها العزم على المضيّ قدمًا. فمن كان نهجه تحرير الأرض وصون الكرامة، لا يموت، بل يُخلّد في قلوب الأجيال.

اليوم، حين تنظر إلى تلك الحشود الهادرة، تدرك أن القادة العظماء لا يقاسون بعدد السنين التي عاشوها، بل بعدد القلوب التي خفقت لهم، والرايات التي ظلّت مرفوعةً بعدهم. وفي تشييع السيد حسن، أمّةٌ شيّعت قائدها، لكنها في الوقت ذاته، شيّعت الخوف والخنوع، لتبقى المقاومة حيّةً، وليبقى نهجه بوصلة الأحرار في كل زمانٍ ومكان.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب