محمد جرادات*

يحرص نتنياهو بشكل حثيث، على استحضار رؤية ملهمه الفكري التاريخي الزعيم الصهيوني زئيف جابوتينسكي وجداره الحديدي، ليجد نفسه وسط سيوفه الحديدية التي أطلق مسمّاها على الحرب الراهنة، مستهدَفاً في غرفة نومه الزوجية صبيحة سبت يهودي، قبالة شواطئ قيسارية المقابلة للإرث الأوروبي، وهو الإرث الثقافي الحضاري الذي يحرص نتنياهو على تعيين نفسه كمدافع عنه في وجه ما يعدّه الهمجية الشرقية.

سبق لجابوتينسكي قبل قرن من الزمان أن تحدّى دافيد بن غوريون، مطالباً بتسريع إقامة "الدولة" اليهودية وتحويلها إلى جدار حديدي، يبعث اليأس في قلوب العرب من أدنى احتمال بالنصر، جدار يسنده مجتمع يهودي يتمتّع بتكامل ثلاث مزايا؛ وهي تماسك اجتماعي متين وطفرة اقتصادية عالية وقبضة عسكرية حديدية.

جاءت ذكرى ميلاد جابوتينسكي في غمرة الحرب ليبثّ منها نتنياهو حلمه التاريخي بتجديد الصهيونية، وخلق "إسرائيل" الثانية على أرضية تراث جابوتينسكي الفكري والسياسي، معلناً تغيير مسمّاه للحرب من السيوف الحديدية إلى حرب النهضة والقيامة.

وسط لجاج الحرب وتشعّب ساحاتها، وبعد استعصاء غزة وفشل تحقيق أهداف الحرب "الإسرائيلية" الثلاثة، هرب نتنياهو إلى الأمام وأعلن عن هدف رابع للحرب وهو إعادة النازحين الإسرائيليين إلى مستوطناتهم في الشمال، وقد نجح في توجيه ضربات أمنية ثقيلة لقيادة حزب الله، وسارع لحصد ثمارها بعملية برية استعاد فيها حزب الله زمام المبادرة، وقد أفشل الحملة بعد قرابة شهر على انطلاقها عبر مسارين؛ الأول نجاحه المفاجئ في منع أي سيطرة "إسرائيلية" كاملة على أي قرية لبنانية من قرى الحافة، والثاني إلحاق خسائر بشرية هائلة بكلّ محاولة تسلل وتقدّم عبر شريط هذه القرى، وهو ما حصد أكثر من 900 جريح ونحو 70 قتيلاً من “الجيش” في ميدان القتال البري بحسب اعتراف مراكز التأهيل "الإسرائيلية".

نجح حزب الله في إفشال الحملة البرية "الإسرائيلية" عبر الميدان العسكري، بموازاة توسيع عمق القصف والتهجير حتى القواعد العسكرية جنوب حيفا، مع تعزيز عمليات قصف القواعد الأمنية في "تل أبيب" بشكل متلاحق، وهو ما ترافق مع ضربات يمنية وعراقية عابرة للحدود، والأهم ضربات فلسطينية كانت ذروتها عملية قطارات يافا التي ترافقت مع القصف الإيراني في الوعد الصادق 2، ثم عملية الدهس بالحافلة على باب قاعدة جليلوت الأمنية التي نفّذها الشهيد رامي نصر الله، وهي القاعدة التي أعلن قصفها للمرة الأولى سماحة الشهيد السيد حسن نصر الله، ثم تلاحق قصفها عدة مرات من الجو حتى جاءها هذا الضرب من البر، لما تضمّه من مقارّ للموساد والوحدة 8200 التابعة للاستخبارات العسكرية.

في خضمّ تطوّرات الحرب من الهجوم "الإسرائيلي" اليائس على جباليا، وما تبعه من استهداف "إسرائيلي" لعدد من القواعد العسكرية الإيرانية في طهران وإيلام وخوزستان، وقد جاء دون التوقّعات، بقيت صورة بيت نتنياهو ونافذة غرفة نومه التي اقتحمتها مسيّرة حزب الله، عالقة في الذهن "الإسرائيلي" بانتظار تبديد ملامحها التي انساحت في الوجدان الأمني والشعبي من دون طائل.

حاول نتنياهو ومعه كامل المنظومة الأمنية والإعلامية، تجاهل ما تمثّله ضربة المسيّرة في غرفة نوم رئيس الحكومة، وسط حرب تستنفر فيها "إسرائيل" كامل طاقتها الأمنية والعسكرية، فشل هذا التجاهل خاصة أنه يحمل معه ما بعده من تحديات تتجاوز البعد الأمني والعسكري، مع احتمالية عالية لتكرار ناجح، وهو ما دفع الحكومة "الإسرائيلية" لإخفاء مكان انعقادها للمرة الأولى في تاريخها، مع حظر الوزراء من اصطحاب مستشاريهم خلال الاجتماع الحكومي.

جاء قرار الكابينيت "الإسرائيلي" بتوجيه ضربة ثانية لاحقة لإيران، رداً على استهداف بيت نتنياهو، في عدة سياقات تبدو إحداها محاولة احتواء ردّ إيراني وهو الاحتمال الظاهر، لكن الاحتمال الخفي الأهم يكمن في فشل عملية تبديد آثار استهداف منزل نتنياهو في العقل والنفس والشعور "الإسرائيلي" الجمعي، خاصة ما تمثّله من نسف لأسس رؤية جابوتينسكي الحديدية التي استحضر منها نتنياهو شعار النصر المطلق، وهو النصر الذي يجعل فكرة المواجهة ضد "الإسرائيلي" عالية التكلفة ومثار رعب عام.

يأتي العامل الأمني تبعاً للجو النفسي الذي أفرزته حادثة المسيّرة، وهي تتجاوز سلاح الجو "الإسرائيلي" وهو في أوج استنفاره في سماء قيسارية، وسلاح الجو مبعث التفوّق النفسي "الإسرائيلي" على شعوب المنطقة، ولكنه قبالة مسيّرة تتجه نحو رأس الكيان وقف عاجزاً ليضطرّ إلى إطلاق صفارات الإنذار في لحظة الصفر، وله تجربة مع مسيّرة ذكية أخرى، سبق أن فضحته في قاعدة بنيامينا التي تساقط فيها عشرات الجنود في موعد العشاء الأخير.

هل ينفع الترويج لجدار جابوتينسكي الحديدي أمام هكذا تطوّرات ميدانية؟ وكيف يمكن تسويق الوصاية "الإسرائيلية" على جنوب لبنان في وقت يضطر الكيان لحفر مقابر جديدة لجنود "جيشه"؟

يظهر البون الشاسع بين النظرية والواقع في خضمّ التاريخ كما هدير الطوفان، ففي التاريخ نجح بن غوريون في تطبيق نظرية خصمه المعارض جابوتينسكي من دون أن يعلن عن ذلك، فأقام بالفعل جداراً حديدياً في العقل العربي سمح بإقامة "دولة إسرائيل"، ونجح بتكريس وجودها على أطلال الذاكرة العربية وذاكرة قطاع بشريّ واسع ما زال يؤمن بـ "إسرائيل" كثابت وسط تحوّلات ومتغيّرات.

يحمل التاريخ دروسه لا ليكرّر نفسه، كما يحلم نتنياهو في محاولته الجريئة لتجديد الصهيونية عبر المضي بها على حافة السيف، ولكن لتجاوز روح الهزيمة من ذاكرة التاريخ العربي، وهي الروح التي تتجدّد وسط حطام البيوت في جباليا، وخلف تلال العديسة وكفر كلا، وعبر فضاء الجليل المحرّر بالمسيّرات الانقضاضية في كلّ القواعد والمصانع والتموضعات، ومعها 25 مستوطنة صدرت أوامر قيادة المقاومة بإخلائها بالكامل.

يتهاوى حديد الجدار "الإسرائيلي" التاريخي والنفسي والفكري، مع كلّ بصمة ثقيلة يضعها عقل المقاومة في الذهن "الإسرائيلي" ، رغم التكلفة الثقيلة من الضحايا الأبرياء في فلسطين ولبنان، ولكن العبرة بالخواتيم كما قال الرئيس نبيه بري لهوكشتاين، وكما تمثّله التطورات الميدانية التي أبكت سموتريتش وهو ينتقل من جنازة إلى جنازة بحسب قوله. فما يفشل "الإسرائيلي" في تحقيقه في الميدان، لن يحصل عليه في غرف التفاوض الخلفية من الدوحة حتى بيروت، وبالتأكيد لن يجني منه أدنى ثمرة في عالم الفكر والنفس حيث المعركة الأخطر في مسار التاريخ وتحوّلاته.

* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ـ الميادين نت