بثينة شعبان*

اغتيال صحافيي قناة الميادين والمنار وهم نيام في حاصبيا يثير أسئلة لا يجوز بعد اليوم التعامل مع كل منها بمعزل عن الأسئلة الكبيرة والكثيرة التي أثارها العدوان "الإسرائيلي" الإرهابي على غزة والضفة ولبنان، وحرب الإبادة المخططة والممنهجة ضد هذين البلدين بالإضافة إلى الاعتداءات الإرهابية المتكررة على سوريا وإيران واليمن.

ولا بدّ بعد كل ما شهدناه من إجرام غير مسبوق من وصل النقاط وتجميع المعطيات والتوصّل إلى الهدف الأخير المرسوم في الدوائر الصهيونية والغربية من كل ما يتمّ اقترافه من انتهاك لكلّ القوانين والأسس والأعراف وقوانين الحرب التي توصّلت إليها الأسرة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، إذا كان هناك من أسرة دولية تستحق هذه التسمية بعد تدنيس كل قيمها وأعرافها ومنطلقاتها الأساسية في احترام إنسانية الإنسان وكرامته.

اغتيال الصحافيين هو محاولة للتخلّص من توثيق جرائم الإرهاب الذي يمارسه الصهاينة، والذي يعلمون أنه عاجلاً أو آجلاً سيشكّل المتن الأساسي لتاريخ الأجيال القادمة، التي سوف تقرأ وترى وتصدر أحكامها بشأن كل ما يتمّ ارتكابه اليوم من جرائم الإبادة. الميكروفون والكاميرا أدوات توثيق، والصحافيون النبلاء الذين وضعوا أرواحهم على أكفّهم مصمّمون على ألّا يفلت هذا الإرهاب الوحشي من العقاب، وإن بدا أنه قد أفلت اليوم فهم حريصون على أن ينال جزاءه وألا تذهب دماء الشهداء من الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء سدى ومن دون حساب أو عقاب.

فبالإضافة إلى إدارة وسائل الإعلام العالمية القديمة منها والحديثة بما يغطي على جرائم الاحتلال، فقد استهدف هذا الإرهاب الصهيوني ومنذ اليوم الأول في غزة الجسد الصحافي في فلسطين ولبنان لترهيب هؤلاء ومنعهم من إيصال حقيقة ما يجري إلى أصحاب الضمائر الحرة، على قلّتهم، والأهم منع توثيق ما يجري من حرب إبادة وإجرام سيسطّر تاريخاً أسود لأبشع إرهاب شهدته البشرية في القرن الواحد والعشرين.

ذلك لأن ما تقوم به القوات الصهيونية يكشف بالفعل عن حقيقة خطيرة وكبيرة، وهي أن هذه الزمرة الصهيونية وكل من يدور في فلكها أو يصمت عن جرائمها هي أخطر أنواع الإرهاب الذي تعرّضت له البشرية في العصر الحديث. وإذا كانت البشرية لا تعي ذلك ولا تتجرّأ على التصدّي لهذ الخطر الجسيم فهذا لا يغيّر من طبيعة وحجم الخطر شيئاً ولا من توصيفه وكشف عناصره للأجيال القادمة كي تقول كلمتها.

إن تعطيل مجلس الأمن من قبل الولايات المتحدة، وتعطيل أي صيغة قانونية لمحاسبة قادة الإرهاب الصهيوني المسؤولين عن أفظع الجرائم في العصر الحديث، قد دفع الكثيرين في العالم إلى اتخاذ موقف الصمت بدلاً من إعلاء الصوت، في وقت تتعرّض فيه إنسانية كل إنسان على سطح هذا الكوكب إلى المهانة والانتهاك.

فالذي لا يشعر بالإذلال من تصرّفات قوات الاحتلال التي ترغم الفلسطينيين على خلع ألبستهم فقط لإشعارهم بالخزي، وهي والصامتين عنها هم الذين يجب أن يشعروا بالخزي، عليه أن يشك في إنسانيته. والذي لا يشعر بالخجل من د. محمود بصل والدكتور حسام أبو صفية وعشرات الكوادر الطبية التي رابطت مع مرضاها في مشافي غزة رغم خطر الموت عليها، عليه أن يشكّك في قيمته الأخلاقية واحترامه لذاته.

والذي لا يشعر بالغضب الشديد وهو يقرأ أسماء الأطفال الذين ماتوا في مشافي غزة نتيجة استهداف إرهاب الاحتلال للأوكسجين، ومنعهم دخول الطاقة لتشغيل الإنعاش يجب أن يتساءل عن ماهية تكوينه. فالإرهاب الذي ينقضّ اليوم على شعب فلسطين والذي لجأ إلى هذه المخيمات بعد مجازر 1948 التي ارتكبها الصهاينة في مدن وقرى فلسطين، هذا الإرهاب يمثّل خطراً حقيقياً على البشرية برمّتها وعلى القواعد الإنسانية والقانونية والأخلاقية لعالم اليوم.


حين قامت الولايات المتحدة بالاعتداء على العراق واحتلاله بذرائع أثبتت زيفها قال دونالد رامسفيلد: "أريد أن أكسر أنوف العراقيين"، أي يريد أن يكسر الشموخ العراقي والكرامة العالية التي يشعر بها العراقيون بتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم ومساهماتهم في الإنجازات العلمية والحضارية والأخلاقية العالمية.

ولا شك أن حقد الصهاينة على العرب والعروبة وما قدّمته الحضارة العربية للعالم من فكر وفلسفة وعلوم وموسيقى وفنون وآثار تشكّل الدافع الأهم في هذا الاستهداف الإرهابي للقيم العربية بكل تجلّياتها، ولا شك أن الهدف الذي تسعى الصهيونية إلى تحقيقه من كل هذا الإجرام والإبادة هو التأكّد من أن يفقد أبناء هذه الأمة الثقة بها، ويقرّروا أن ينضووا تحت راية من هو مصمّم على استعبادهم وإذلالهم.

ولكن هيهات منه ذلك. إذا كان الإعلام الصهيوني ما زال يخشى رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" عام 1969 بعد أن اغتال غسان كنفاني منذ ستين عاماً، وما زال يكرّس الجهود ليحذف كتاباته التي حقّقت شهرة عالمية، بحيث أن روايته هذه تمّت تزكيتها من قبل ضيف في برنامج "إزرا كلين" في النيويورك تايمز بودكاست العام الماضي.

إذا كان الاحتلال ما زال يخشى صوت غسان كنفاني الذي ظنّ أنه أسكته منذ عقود فكيف به بعد آلاف الأصوات الحرة المؤمنة بتاريخها ومستقبلها والتي يشكّل صحافيو الميادين والمنار والصحافيون الفلسطينيون والسوريون والعراقيون والعرب الشهداء، وكل صحافي حرّ في الوطن العربي والعالم مصدر قلق حقيقي لهذا العدو الغاشم؟

من هنا ينطلق خوف الصهاينة. فهم يجرّفون الأراضي الزراعية ويمنعون الغذاء والدواء والماء والكهرباء، لكنهم يجدون الجهاز الطبي يغامر بحياته لإنقاذ مرضاه، والجهاز الإعلامي يغامر بروحه وأرواح أهله لإيصال حقيقة ما يجري إلى أسماع العالم. ويخترعون مسار أبراهام ويفرحون بتطبيع بعض الحكّام معهم ويعتقدون أنهم على وشك الانتصار ليجدوا عصا السنوار كعصا سيدنا موسى تقلب السحر على الساحر، وتجعل من استشهاد السنوار وكلّ من سبقوه من الشهداء وقوداً لإذكاء روح المقاومة لدى الشباب في فلسطين ولبنان واليمن وسوريا والعراق.

هذا مع التزام مطلق بالقواعد الأخلاقية التي تربّوا عليها فلا يستهدفون المدنيين ولا يقتلون أسيراً ولا يعتدون على حرمات زراعة أو ماء أو كل ما يشكّل سبل الحياة، بل فقط يستهدفون مواقع وأشخاصاً وآليات عسكرية منخرطة في الحرب ضدهم. فأين هؤلاء الصهاينة من شهامة الكوادر الطبية والعلمية والصحافية والمهنية العربية التي تبذل الروح رخيصة في سبيل إحقاق الحق وإعلاء صوت المظلومين وإسماعه للعالم بغية إنصافهم؟

بعد أن روّجوا للتطبيع مع العالمين العربي والإسلامي فوجئوا بمقاومين صمدوا على مدى عام ونيف رغم الاختلال الكبير في موازين القوى، وبعد أن اغتالت الزمرة الصهيونية بأساليب إجرامية معظم قيادة حزب الله وحماس فوجئت بالمقاومين الأشاوس في الجنوب وغزة يوقعون خسائر كبيرة في قوات الاحتلال مع كل مطلع شمس، ويمنعونها من تدنيس أرض لبنان الطاهرة. وكان يجب أن يعلم هؤلاء الصهاينة بعد تجربتهم عام 1982 وعام 2000 وعام 2006 ألّا مكان لهم على هذه الأرض وأن أبناءها يبذلون الغالي والرخيص كي تبقى أرضهم عزيزة كريمة يفخرون بانتمائهم لها وتفخر بهم.

هذا هو لبّ الصراع اليوم ليس على الأرض فقط وإنما على القيم والأخلاق والمبادئ، فالذين حلموا بالقضاء على حماس أو القضاء على حزب الله أو القضاء على الإعلام أو المفكّرين أو الكتّاب أو الأطباء، لم يدركوا أن هؤلاء جميعاً أصحاب قضية، وأن الإرهاب الصهيوني وداعميه وكل القوى وبطاريات الصواريخ والبوارج الحربية يمكن أن ترهب ضعاف النفوس والساعين إلى متعتهم الآنية واليومية، ولكنها لا يمكن أن توهن رجالاً ونساء مؤمنين بقضيتهم وأولي بأس شديد ومستعدين للتضحية بكل ما لديهم كي لا يمرّ معتدٍ من هنا أو هناك، وكي لا يدنس هذه الأرض الطاهرة المقدسة التي ورثوها عن الآباء والأجداد أمانة في أعناقهم للأجيال القادمة.

بهذه الروح صمدت العروبة والحضارة العربية آلاف السنين ودحرت كلّ المعتدين والمحتلين والآثمين، وبهذه الروح يصمد أبطال فلسطين ولبنان وسوريا واليمن والعراق، ولن تشكّل الإبادة التي يرتكبها الصهاينة اليوم سوى خزي لهم ولأجيالهم المستقبلية ولكلّ الصامتين عنها والمتواطئين معها. أما الأحرار المقاتلون والمجاهدون في سبيل حرية وكرامة الأوطان فلهم النصر القريب والمستقبل المشرق. وسيكون كل من ضحى وجاهد وساند شريكاً في صناعة المستقبل الأجمل للجميع.

* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ـ الميادين نت