د. عبدالرحمن المختار*

صَنَّفَتِ القِوَى الاستعماريةُ الغربيةُ، التي أنشأت الكيانَ الصهيونيَّ، كُـلَّ انتقادٍ لأفعالِ هذا الكِيانِ المُجرِمِ، وكُلِّ سلوكياته، بأَنَّهُ معاداةٌ للسامية، وتَرَتَّبَ على ذلك التصنيفِ تعرُّضُ كُـلِّ صاحب رأي حُـــرِّ للمضايَقة والمُلاحَقة والمحاسَبة، خلال العقود الماضية؛ بذريعة مُعَــادَاة السامية!
وهذه الهالةُ الكبيرةُ من الحماية التي أَضْفَتْها القوى الاستعماريةُ على كِيانِ الإجرام الصهيوني، لم تكنْ بسَببِ مواقفَ عدائيةٍ ملموسةٍ على أرضِ الواقعِ ضد الصهاينة، بل إن تلك الحمايةَ مَثَّلَت حائِطًا ناريًّا ساندًا لعدوانية الصهاينة وإجرامهم، وكأن القوى الاستعمارية -بتوفيرها هالة الحماية الكبيرة للصهاينة، تحت ذريعة مُعَــادَاة السامية- تريد أن تقولَ للآخرين: إنه مهما فعل الصهاينة، ومهما ارتكبوا من الجرائم؛ فعلى الجميع تقبُّلُها وعدمُ نقدها، وعدمُ المطالَبةِ بالمحاسبة عليها؛ باعتبَار أن أُحجيةَ "السامية" تُمَثِّلُ حَصَانَةً للصهاينة ضد أيِّ نَقْدٍ أَو مساءَلة أَو ملاحَقة أَو محاسبة.

وخلال العقود الماضية اقترف الصهاينةُ مئاتِ الجرائم بحق الإنسانية، وكُلُّ نقد أَو توثيق لتلك الجرائم، عُـــدَّ -من جانب القوى الاستعمارية- مُعَــادَاةً للسامية، وإثارةُ أية مطالبة بمحاسبة كيان الإجرام الصهيوني أمام أَيٍّ من المؤسّسات الأممية المتخصصة، عُـــدَّ ذلك أَيْـضاً مُعَــادَاةً للسامية الصهيونية؛ وبسبب ذلك تعرَّضَ كُـلُّ صاحب رأي حُرِّ، وضمير حي، للمضايقات والملاحَقات والتهديد والوعيد والمحاسبة من جانب القوى الاستعمارية، التي لم تدَّخِرْ وِسْعًا في التهويل والإرهاب لكل من يفكِّرُ في نقد السلوكيات الإجرامية للكيان الصهيوني أَو حتى مُجَـرّد الكتابة عنها.

ورغمَ بشاعة ما ارتكبه الكيانُ الصهيوني من جرائمَ بحق الإنسانية، إلا أنها حظيت بتغطيةٍ كاملةٍ من جانب القوى الاستعمارية، التي وقفت في وجهِ أي إجراء يمكنُ أن تتخذَه فروعُ المنظمة الدولية، حَيثُ كانت تواجَهُ بالاعتراض لإحباط حتى صدور بيانٍ أَو إعلان إدانة دولية، لأفعال الكيان الصهيوني الإجرامية؛ فتلك الأفعالُ وإن كانت ضد أبناء الشعب الفلسطيني، إلا أن قساوتَها وبشاعتها ووحشيتها وهمجيتها، تتصادمُ مع الفِطرةِ الإنسانية السليمة، ويعد اقترافُها إهانةً للبشرية بأسرها، وحَــطًّا من قيمتها وقيمها الأخلاقية الإنسانية.

وتلك الأفعال وصفتها الوثائقُ القانونية الأممية بأنها جرائم إبادة جماعية، وأنها لا تَخُصُّ مَن وقعت عليهم، بل عَدَّتها هذه الوثائقُ واقعةً ضد الإنسانية بأسرها؛ ولذلك جاء وصفُها في اتّفاقية منع جريمةِ الإبادة الجماعية والمعاقَبِ عليها، بأنها آفَةٌ بغيضة يتوجب على الدول التعاوُنُ لتخليص البشرية منها، وقبل ذلك وفوق ذلك، عدّ القرآنُ الكريم جريمةَ القتل بدون وجه حق، إبادةً للإنسانية بأسرها، وكذلك الفساد في الأرض، وهو ما يمارسُه الكيانُ الصهيوني اليومَ في قطاع غزةَ من تدمير شامل وإبادة جماعية، وقد شَمِلَ القتلُ الفرديُّ بدون وجه حق للإنسانية جميعها في قوله تعالى: ﴿مِنْ أجل ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إسرائيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جميعاً﴾.

وقد ذكر بعضُ المفسِّرين أن ورودَ الآية في بني "إسرائيلَ" تحديدًا؛ (للتنبيه على أنهم قد فَجَروا وأوغلوا في سفك الدماء بغير حق، وأن الحسدَ غالِبٌ فيهم، وهو يَجُـــرُّ إلى هذه الجريمة؛ فلذلك استهانوا بالقتل، وكَثُرَ فيهم)، ومع بشاعة وفظاعة ووحشية وهمجية جرائم الكيان الصهيوني، بحق أبناء الشعب الفلسطيني، التي تعد جرائمَ بحق الإنسانية بأسرها، فقد غَطَّت القوى الاستعماريةُ الغربيةُ تلك الجرائمَ على مدى ثمانية عقود من الزمن، ظلت خلالها أُحجيةُ مُعَــادَاة السامية مفعَّلةً في مواجهة كُـلِّ مَن يناصِرُ مظلوميةَ أبناء الشعب الفلسطيني من أصحاب الضمائر الحية في البلدان الغربية، فرديًّا أَو في أيِّ محفل من المحافل الدولية، ليُوصموا جميعاً من جانب القوى الاستعمارية بتُهمةِ مُعَــادَاة السامية!

وفي أحدث وأبشع جريمة يقترفُها الكيانُ الصهيوني والصهيونية العالمية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لم تتمكّنْ تلك القوى الاستعماريةُ الإجراميةُ من تفعيل أُحجيتها عن معاداة السامية؛ بسَببِ وحشيةِ وهمجية جريمة الإبادة الجماعية، وتعدُّد أفعالها واستمراريتها على مدى عشرة أشهر، وانفضاحِ القوى الاستعمارية الغربية، وانكشافِ دورها القذر في الشراكة مع الكيان الصهيوني، بصورٍ وأشكال متعددة في اقترافِ تلك الجريمة؛ فلم تعد تلك الأُحجيةُ تعملُ في خدمة الكيان الصهيوني، كما كانت عليه في العقود الماضية.

فقد واكب الرأيُ العامُّ العالميُّ أفعالَ جريمة الإبادة الجماعية، بشكل مباشر يوميًّا وعلى مدار الساعة؛ وهو ما ترتب عليه إحباطُ الجهود التضليلية للقوى الاستعمارية لصرفه عن الجريمة، إلى غيرها من الأحداث والإشكاليات الداخلية والخارجية، التي اختلقتها القوى الاستعماريةُ الإجرامية، وكان للتطور الكبير الذي أصاب وسائلُ الإعلام عُمُـومًا، ووسائل التواصل الاجتماعي خُصُوصاً، أثرٌ كبيرٌ في إفشال مخطّطات تلك القوى في طمس معالم الجريمة، بذرائعَ ومبرّراتٍ متعددةٍ، منها أن ما يجري في قطاع غزةَ حربٌ، هدفُها ملاحَقَةُ جماعات إرهابية، لكن حجم الكارثة الإنسانية، التي تسببت فيها القوى الاستعمارية الغربية، بشراكتها لكيان الإجرام الصهيوني، طَغَى على كُـلِّ الزيفِ والتضليلِ المصاحِبِ لاقتراف أفعال جريمة الإبادة الجماعية.

والواضحُ أن وقائعَ الجريمة قد وصلت عبر وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي بمشاهِدَ ومشاهداتٍ حَيَّةٍ إلى كُـلّ سكان الكرة الأرضية؛ وبسببِ الامتداد الزمني للجريمة، واتِّساع مسرحها، والعدد الكبير للمجرمين المشتركين في اقترافها، لكل ذلك لم تتمكّن الماكينةُ الإعلامية للقوى الاستعمارية الغربية من التأثير على تحَرُّكِ أصحاب الضمائر الحية من أبناء الشعوب الغربية ذاتها، ضد الكيان الصهيوني المقترِفِ المباشِرِ لأفعال جريمة الإبادة الجماعية وشركائه في اقترافها؛ فخرجت المسيراتُ الشعبيّةُ المندِّدَةُ بالجريمة ومقترفيها، تجوبُ عواصمَ الدول الغربية وكُبْرَيَاتِ مُدُنِها، وأُقيمت الاعتصاماتُ الطلابيةُ في عدد كبير من جامعات الدول الغربية، رافِعةً شِعاراتِ المقاطَعة للكيان الصهيوني، ومطالبة بمحاسبته على جريمة الإبادة الجماعية.

وقد خرجت التحَرُّكاتُ الشعبيَّةُ والاعتصامات الطلابية عن سيطرة الأنظمة الغربية الشريكة للكيان الصهيوني في جريمة الإبادة الجماعية، ولم تُجْــدِ معَها الأساليبُ القمعية، التي اتبعتها تلك الأنظمةُ الإجرامية، ولم تُجْــدِ معها كذلك أُحجية معاداة السامية، التي رفعتها القوى الاستعمارية الغربية في وجه الطلاب المحتجين، وكذلك الوعيد الذي أطلقته تلك القوى بالمحاسبة على جريمة مُعَــادَاة السامية، لكن كُـلّ جهودِها باءت بالفشل، وتصاعدت الاحتجاجاتُ الشعبيّةُ، وتوسَّعَتِ الاعتصاماتُ الطلابيةُ؛ لتشملَ عددًا كَبيرًا من الجامعات الغربية؛ ولتؤكِّـدَ تلك الاحتجاجاتُ والاعتصاماتُ حيويةَ القِيَمِ الإنسانية والأخلاقية، التي لطالما عملت القوى الاستعمارية الغربية على مسخها، وتؤكّـدُ تلك المسيراتُ والاعتصامات الرفضَ الواضح والصريح لكل ما روَّجت وتروِّجُ له القوى الاستعماريةُ الغربية، حول أُحجية مُعَــادَاة السامية؛ بهَدفِ حماية الجرائم النازية للصهيونية العالمية.

وذلك الترويجُ الذي تمكّنت من خلاله القوى الاستعمارية الغربيةُ من توفير الحماية الكاملة لكيان الإجرام الصهيوني، والحصانة ضد الملاحَقة والمحاسبة الدولية على جرائم الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني على مدى العقود الماضية، لكن تلك الحماية والحصانة -التي اعتمدت أُحجيةَ مُعَــادَاة السامية- بدأت تتهاوى اليومَ وتنهارُ في معاقل القوى الاستعمارية ذاتها؛ بسَببِ صحوةِ الضمير الإنساني للشعوب الغربية في مواجَهة أنظمة حُكْمِها الشريكةِ في الجريمة، وتمثِّلُ الصحوةُ الإنسانيةُ لهذه الشعوب مؤشِّرًا مُهِمًّا على فشل الصهيونية العالمية في مَسْخِ الفطرة الإنسانية السليمة لدى تلك الشعوب.

والمؤسِفُ حَقًّا أن شعوبَ الأُمَّــة الإسلامية، وخُصُوصاً الشعوبَ العربية، تخلو ساحاتُها وميادينُها العامة، وجامعاتُها من مثل تلك الصحوةِ الإنسانية، التي تجسَّدت في احتجاجاتٍ شعبيّة واسعة، تشهدُها يوميًّا تقريبًا العواصمُ والمدنُ الغربية، واعتصامات طلابية مفتوحة في جامعاتها، والأصلُ أن تكونَ مثلُ تلك التحَرُّكاتِ الاحتجاجية، والاعتصامات الطلابية، في جامعات الدول الإسلامية وميادينها وساحاتها العامة، وخُصُوصاً العربيةَ منها، التي ترتبطُ مع أبناء الشعب الفلسطيني بروابط الدم والدين واللغة والجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك.

ويبدو أن شعوبَ الأُمَّــة الإسلامية -خُصُوصاً العربيةَ منها- قد تأثَّرت بمخطَّطات القوى الاستعمارية الغربية والأنظمة العربية، التي صرفتها عن واجباتها في مناصَرَةِ أبناء الشعب الفلسطيني، حتى بمُجَـرَّدِ الاحتجاجاتِ المعبِّرَةِ عن استنكارها ورفضِها لجريمة الإبادة بحقهم!

وَإذَا لم تَصْحُ شعوبُ الأُمَّــة الإسلامية من سباتِها بعد عشرة أشهرٍ من تتابُعِ واستمرارِ جريمة الإبادة الجماعية؛ فمتى يمكنُ أن تصحوَ هذه الشعوبُ؟!

* المصدر : المسيرة نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه