إيهاب زكي*

‏بعد بهلوانيات الجو التي تسمّى إنزال المساعدات على قطاع غزّة، جاء دور الولايات المتحدة لتلعب دور العاقل الرصين، من خلال اقتراح الرصيف البحري في غزّة، وتدشين خط مساعدات إنسانية بحري من قبرص. وفي ما هي تفترض أنّ هذه رصانةٌ مفرطة، تكتشف حين التدقيق في التفاصيل، أنّها مجرد فصل آخر من التهريج والبهلوانية.

‏حيث إنّ أمن الرصيف البحري حسب الطرح الأميركي سيكون مسؤولية “إسرائيلية”، وهذا يعني احتلالًا “إسرائيليًا” للقطاع، في الوقت الذي تعلن الولايات المتحدة رفضها لإعادة احتلاله، هذا أولًا، أمّا ثانيًا فهي تفترض قدرة “إسرائيل” على تأمين الرصيف، في الوقت الذي تعجز فيه عن تأمين قواتها أصلًا، بمعنى أنّ إدارة بايدن تفترض هزيمة حماس خلال 60 يومًا وهي المدة القصوى المعلنة لإنشاء الميناء.

‏كما أنّها تفترض قدرة “إسرائيل” على تشكيل أجسام إدارية مناهضة للمقاومة على شكل صحوات، حيث تشرف على توزيع المساعدات، وهي 2 مليون وجبة يوميًا حسب الإعلان الأميركي، وهذا يفترض أنّ العدوان على غزّة بلا سقوف ولا نهايات، وهو ما يتناقض مع الرغبة الأميركية بإنجاز هدنة تكون مقدمة لوقف العدوان.

‏كثيرةٌ هي التحليلات التي ذهبت حد الشطط، في مقاربة هذه الخطوة الأميركية، التي لا تقلّ بهلوانيةً عن الإنزالات الجوية، بهلوانيةٌ تنتهي أحيانًا بمآسي القتل، حيث لا يكفي أهل غزّة الموت بالقصف والنار والجوع، بل بسقوط المساعدات “خطأ” على رؤوسهم، فهذا الرصيف هو خطوةٌ أميركيةٌ أخرى لتأكيد المؤكد، وهي أنّ العدوان على غزّة واستهداف الشعب الفلسطيني والمنطقة هو حربٌ أميركية، وما الكيان المؤقت إلّا واجهة هذا العدوان.

‏والحقيقة أنّ هذا الرصيف البحري هو فكرة “إسرائيلية” كما أقرّ الكيان بذلك، وهو أولًا بهدف التلويح بإحالة معبر رفح إلى التقاعد، بما يعني ذلك من سحب آخر الأوراق المصرية، ويبدو أنّ هذا التلويح جزء من رسالة “إسرائيلية” لمصر، بأنّ أداءها في الضغط على المفاوض الفلسطيني ليس كافيًا، بما يعني أنّ مصر فرطت في سيادتها حدّ أن يعتبر الكيان معبر رفح منحته لمصر، يستطيع وقت يشاء سحبها.

‏ويأتي ثانيًا لتجفيف كلّ طرق وسبل المساعدات وحصرها في هذا الرصيف، بما يعني ذلك عدم الحاجة لكل المؤسسات الإغاثية العاملة في قطاع غزّة، وعلى رأسها منظمة “الأونروا”، والتي تُعتبر تصفيتها أحد أهداف العدوان المعلنة على غزّة.

‏وثالثًا يأتي في إطار المحاولات الأميركية للتخلص من عبء الصورة اللاأخلاقية التي انتهجتها الدبلوماسية الأميركية في الـ”فيتو” المتكرّر لوقف العدوان، والتأييد اللامشروط لجرائم الحرب “الإسرائيلية” في غزّة.

‏أمّا رابعًا فيأتي في إطار محاولات تسجيل اختراق سياسي وإداري عبر الاستثمار في أطراف محلية في إطار إنساني، وذلك بهدف صناعة بديل بحكم الأمر الواقع لحكومة حماس في غزّة.

‏ولكن الحقيقة أنّ هذا الميناء ومهما كانت أهدافه أميركيًا أو “إسرائيليًا”، لا يمكن أن يُكتب له النجاح دون موافقة حكومة غزّة، ولا يمكن حتّى لحظة كتابة هذه السطور، إتيان فعلٍ أو مشروعٍ في غزّة دون موافقة حكومتها، ومستقبلًا كذلك حسب ما تشير إليه مسارات الميدان ودهاليز التفاوض، لا يمكن أن يتخّذ طرفٌ دولي أو إقليمي أو محلي خطوةً دون الرجوع لحكومة غزّة، صغرت هذه الخطوة أم كبرت.

‏ويبدو أنّ تقرير الـ”سي آي إيه” خصوصًا في فقرته التي اعتبرت أنّ نتنياهو يفقد السلطة، أزعج نتنياهو حد فضح أهداف الميناء، حيث صرح مصدرٌ “إسرائيلي” مسؤول “أنّ المتوقع من الولايات المتحدة إسقاط حماس لا حكومة “إسرائيل”” وهذا المصدر ليس إلّا لسان نتنياهو، الذي اقترح على الإدارة الأميركية فكرة الميناء لإسقاط حكومة حماس عبر إيجاد بدائل بمداخل إنسانية.

‏والملفت في هذا التقرير الاستخباري أنّه يتوقع قدرة حماس على البقاء في حالة حرب لسنوات، في ما ذات الإدارة تريد من “إسرائيل” تأمين الميناء في ظلّ بقاء قدرة حماس العسكرية على الفعل.

‏إنّ المقاومة ليس لديها وقتٌ لكل هذا الهراء الذي يحاول العدوّ افتعاله تحت شعارات إنسانية كاذبة، فلديها معركة لا خيارات فيها سوى النصر الناجز، وهذا النصر يتطلب اليقظة والعمل والدم، وهو ما يتناقض مع كلّ محاولات التشتيت تلك، وأنّ على الولايات المتحدة أن تفكر في اليوم التالي لهزيمة الكيان وفشله، بكلّ ما لذلك من تداعيات على وجودها ونفوذها في المنطقة، وليس التفكير بخليفة نتنياهو.

* المصدر: موقع العهد الاخباري
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب