محمد حسن خليفة*

كل الذين خبروا الحروب الإسرائيلية يعرفون أن العدو الإسرائيلي يتقن التأثير الكبير في أي بيئة تحاول دعم مقاومتها في صد اعتداءاته وهمجيته، فتبدأ المعارك في حدود الحروب التقليدية، وترتفع حدّتها حسب الوقائع الميدانية، التي دائماً تثبت العقيدة الانهزامية لـ"جيش" الاحتلال، وتراجع الروح المعنوية في ساحة القتال والمواجهة، وفي معظم المراحل التاريخية للحروب التقليدية للعدو على أكثر من جبهة عربية، كانت السيطرة واضحة لهذا العدو، نتيجة التفوق العسكري، والدعم الغربي في حال احتاج أي مساعدة تحقق أهدافه، في فترة زمنية قصيرة، نظراً إلى ضعف جبهته الداخلية في إطالة أمد الحروب، ولتجنب الخسائر وتحديداً البشرية منها، وأخطرها وقوع جنوده في الأسر، لما يشكله هذا الأمر من ضغط داخلي، لا يمكن لأي سلطة سياسية أو عسكرية تحمّله.

ناهيك بمبدأ أساسي لدى الكيان، المحافظة على الحياة اليومية داخل "إسرائيل"، لتشجيع المقيمين فيها على البقاء وتأسيس أعمالهم داخلها، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، العمل على استيعاب الأعداد الجديدة من المهاجرين إلى "إسرائيل"، في عملية مستمرة لتوسيع الاستيطان، وقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتسليح المستوطنين للقيام باعتداءاتهم المستمرة، لمنع أي محاولة تتصدى للتهويد المتواصل، بهدف محو الهوية الفلسطينية، وتركيع الشعب الفلسطيني وإذلاله، عبر ضرب مقومات الصمود، نتيجة فقدان إمكانيات العيش، والسعي لتهجير الفلسطينيين في اتجاهات مختلفة، لما يشكله ذلك من مخططات استراتيجية وضعها العدو، للحصول على مكاسب إضافية، فنجاح التهجير القسري أو نتيجة صعوبة استمرار الحياة في المناطق الفلسطينية، ينتج منه توطين الفلسطينيين في أماكن وجودهم، وخصوصاً في لبنان والأردن وسوريا والكثير من الدول العربية، وأيضاً في الدول الأجنبية، حيث ينتشر الفلسطينيون، الذين يحاولون ترتيب معيشتهم في تلك الدول.

والخطورة هنا تكمن في متابعة الاحتلال للمزيد من الضغط، لإنشاء بؤر استيطانية جديدة، وما يثبت نجاح المخطط الإسرائيلي، التزايد المخيف لعدد المستوطنين في الضفة الغربية، التي لم تخف السلطات في "إسرائيل" اقتراب موعد إعلان السيادة عليها، بعد الانتعاش في وصول المرشح الجمهوري إلى البيت الأبيض دونالد ترامب، والمعروف بمواقفه وسياسته في دعم "إسرائيل"، والذي سيحاول متابعتها في ولايته الثانية التي تبدأ في كانون الثاني عام 2025، كونه توج تلك السياسة في ولايته الأولى، بخطوات عديدة قام بها، أخطرها قرار نقل السفارة الأميركية من "تل أبيب" إلى القدس عام 2017، والاعتراف بضم الجولان السوري إلى "إسرائيل" عام 2019، وتصريحاته المتكررة بضرورة توسيع مساحتها، التي تعيش وسط محيط عدائي للكيان يهدد وجوده.

وهذا مبدأ ثابت بالنسبة إلى "تل أبيب" وواشنطن، ومعها دول غربية داعمة لوجود كيان غاصب، قادر على تنفيذ الأجندة الغربية، وفتح المزيد من الأبواب، بغية الهيمنة على تلك المنطقة الغنية بثرواتها الطبيعية ومواردها البشرية والمادية، وموقعها الاستراتيجي، الذي يشكل ممراً للقارات الأخرى، وسوقاً اقتصادياً يمكن لـ"إسرائيل" التكنولوجية والاقتصادية والسياحية والعسكرية قيادته، والاندماج مع شعوبه، في ظل دعاية إعلامية متبوعة بترهيب استخباري وعدواني دائم، ما يمنع الاعتراض على أي خطط أو برامج مشتركة في المستقبل، سيكون العدو الرابح الأكبر فيها، ما يعطي للتطبيع بعداً شاملاً يتخلص من عقدة الرفض الشعبي، والدخول في علاقات طبيعية، تشكل الفرصة الحقيقية للتوسع في أي لحظة مناسبة، يستطيع العدو تبريرها تحت ذرائع عديدة، مدعوماً من الدول الغربية وإعلامها المنحاز، لترويض شعوب تلك الدول، التي تحاول في كل مرة أن تعترض على سياسات دولها المتعلقة بدعم الكيان الإسرائيلي المحتل للأراضي الفلسطينية، لكنها تسقط نتيجة الضخ الهائل للمعلومات المضللة، التي غالباً ترمي المسؤوليات الثقيلة على عاتق حركات التحرر والمقاومة، والتغييب الكامل لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، والتي تكفلها المواثيق الدولية، بالرغم من أنها نتاج التطور الحضاري للغرب، حسب زعمه.

لكن ما يثير القلق عدم تفعيل تلك المواثيق لوقف الحروب والاعتداءات، بالإضافة إلى تهميش المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة، واستخدام مجلس الأمن لمنع محاسبة الدول المعتدية، التي تتصدر قائمتها "إسرائيل"، وتعطيل المحاكم الدولية، وخصوصاً محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية، بغية إفلات المسؤولين عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية والعدوان والجرائم ضد الإنسانية، والمؤسف أن الحروب الإسرائيلية تنسف حتى اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها، وتقوم بجرائم إبادة لا تحتاج إلى أي براهين أو أدلة أو تحقيقات لإثباتها، كل ذلك يحصل والوسائل الإعلامية المحلية والدولية، تمارس دوراً تضليلياً في تبرير تلك الجرائم، وتحميل المسؤولية للمقاومة، من دون النظر إلى الهمجية غير المسبوقة في التدمير والقتل، بداية في قطاع غزة، وصولاً إلى العدوان الخطير على لبنان، والتصعيد الممنهج للضغط على الشعب اللبناني، وأيضاً على بيئة المقاومة، بهدف إخضاعها للشروط الإسرائيلية والأميركية، الهادفة إلى تغيير الشرق الأوسط، ونسف موازين القوى الداخلية، والاستثمار في ضرب المقاومة لتكوين سلطة لا تمانع التطبيع مع العدو الإسرائيلي مستقبلاً.

وما نشهده من محاولة الترويج لضعف المقاومة بغية تحقيق مآرب سياسية، يأتي في سياق البناء على نزع سلاح المقاومة، وفرض التطبيق الشامل للقرار 1701، والتغاضي عن مندرجاته المتعلقة بالعدو الإسرائيلي، والإيحاء بأن هذا القرار يشكل فرصة ذهبية للتخلص من فائض القوة لدى المقاومة، وتغيير قواعد الاشتباك الداخلي، تمهيداً لفرض وقائع جديدة، تعكس تراجع قوة المقاومة، وتنزع عنها الدعم الخارجي، وحصر اللاعب الإيراني في حدوده الجغرافية، وتهديد إيران بالعقوبات القاسية وضرب برنامجها النووي، في تكرار لمشهدية تراجع الدور السوري، بداية من استغلال جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، وصولاً إلى حرب تموز 2006 لمتابعة الضغط على الداخل اللبناني، وفك الارتباط مع سوريا، وانتهاءً بالحرب على سوريا، التي أخرجتها من المعادلة الإقليمية، وجعلتها غير قادرة على فرض سلطتها على كامل أراضيها.

وفي ظل العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ الثالث والعشرين من أيلول 2024، وبعد أكثر من 45 يوماً من الإعلان عن العملية البرية، والتدمير المتواصل للمدن والقرى اللبنانية، وسقوط آلاف الشهداء والجرحى، فشل الإعلام اللبناني في طريقة التعاطي مع هذا العدوان، وهذا الفشل ساعد في إحباط الشعب اللبناني، والخطير أنه يسعى لضرب بيئة المقاومة وصمودها، المطلوب لملاقاة صمود المقاتلين على الحدود اللبنانية، وقوة إدارة المعركة من قبل قيادة المقاومة، وعجز العدو عن احتلال أي قرية لبنانية، أو تحقيق أي هدف من أهداف الحرب، سوى التدمير الوحشي وقتل المدنيين.

فهل يعقل أن تدار الحرب بعقلية الانهزام؟ وكيف تخلى الإعلام عن دوره في التصدي للعدوان؟ وهل حصل ذلك بخطة مدروسة أم نتيجة الجهل الفكري لدى وسائل الإعلام؟

في ظل غياب السلطات اللبنانية لمواجهة محاولات إشعال الفتنة في أكثر من منطقة لبنانية، كما عجزها عن مواكبة تداعيات الحرب، والتلهي في قطف ثمارها، والغريب أن وسائل الإعلام ومعها وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها كافة، تنقل حجم الدمار في لبنان، وتتجاهل الخسائر البشرية والمادية للعدو، والتداعيات الخطيرة على مستقبل كيانه، وعدم التطرق إلى ما يعانيه على الصعيد الداخلي، والعزلة الشعبية الدولية.

* المادة الصحفية تم نقلها حرفيا من الميادين نت