نور الدين اسكندر*

واشنطن التي تقصف بالمساعدات، وتساعد بالقصف، ماذا يعني أن توازي بين مساعداتها المستمرة لـ”إسرائيل” على قتل الفلسطينيين في غزة بالأسلحة والأموال والدعم السياسي، ورمي المساعدات عليهم كالقنابل؟ وماذا يعني أن تتزامن الدعوات الأميركية إلى وقف إطلاق النار مع إبداء العجز عن تنفيذه؟ وماذا يعني أن تضطر الولايات المتحدة – وفق ما تعلنه – إلى طُرُق التفافية بديلة من أجل إرسال مساعدات غذائية إلى الفلسطينيين وإعلان نية بناء ميناء في غزة؟ من دون أن تجبر حليفتها “إسرائيل” على إدخال المساعدات من النقاط البرية؟

في الحقيقة، تنشط المفاوضات في الكواليس، لكن معطياتها الحقيقية والمؤثرة تتفاعل في الميدان فقط.

الأسئلة السابقة تشير إلى احتمالات متعددة، منها أن تكون واشنطن صادقة في مساعيها لوقف النار، من دون أن تكون لها القدرة على فرض ذلك على “إسرائيل”. وهو احتمال قائم إذا بدَلنا “واشنطن” بـ”إدارة بايدن”. بذلك تكون “إسرائيل” تبتز الرئيس الأميركي جو بايدن مع قرب الانتخابات الرئاسية التي سيخوضها ضد منافسه وحليف “إسرائيل” الآخر، دونالد ترامب.

يبدو بايدن الآن في أسوأ وضعية لمرشح رئاسي يخوض السباق من أجل تجديد ولاية ثانية له في البيت الأبيض. وكلما اقترب وقت الاستحقاق أصبحت حساباته أكثر تعقيداً، وخصوصاً أن المنطقة فتحت عليه احتمالات شديدة الصعوبة، وأهمها احتمال الحرب الإقليمية الشاملة، مع حركات مقاومة متمرسة في القتال، وخبيرة في استنزاف الجيوش الكبرى، ومفاجئة في مستوى أدائها العسكري وأسلحتها المتلائمة مع أهدافها، والتي تتكشف أنواعها تباعاً مع تصاعد وتيرة المواجهة الميدانية.

لكن، هل ترغب إدارة بايدن فعلاً في وقف الحرب الصهيونية على غزة بصورة كاملة حتى تواجه هذا المستوى من الابتزاز الصهيوني ؟

استعادة مسار الأشهر الخمسة الأخيرة تُظهر توافقاً بين الأهداف الأميركية والصهيونية بخصوص القضاء على المقاومة الفلسطينية، وخلق ظروف مغايرة تُريح الكيان في الشمال. الخلاف بين الجانبين إذاً هو بشأن الأساليب والخط الزمني ومستوى المخاطرة الذي يمكن تحمّله فيما لو انفلتت الأمور من عقالها.

والمؤشرات البادية من المحور الآخر تشير إلى إمكان حدوث ذلك، إذا بقي السعار الصهيوني مصمماً على مسار الإبادة، وإذا ظل الدعم المستتر والمعلن من الغرب لهذا المسار. فبينما تسعى “إسرائيل” المتطرفة في الجريمة وحكومتها المجاهرة بتطرفها، بصورةٍ جاهدة، لجرّ الأميركيين إلى حرب كبرى في المنطقة، يحاول الأميركيون تحقيق الأهداف المشتركة مع “إسرائيل” من دون خوض الحرب الموسعة، وذلك لحسابات أميركية داخلية شديدة التعقيد من جهة، بينما يتعلق بعضها الآخر بتقدير ثمن هذه الحرب من جهةٍ ثانية.

فاتخاذ قرار إشعال حرب في الشرق الأوسط في هذه اللحظة سوف ينعكس على حسابات الانتخابات الأميركية، كما سوف يُدخل واشنطن في تكلفة مالية ثقيلة الوطء على اقتصادٍ متعثر ويواجه مشكلاتٍ بنيوية لا قِبَل لواشنطن بحلها الآن.

ثم إن المخاطرة بشن الحرب قد تُخسر واشنطن، خلال الأعوام المقبلة، والتي يتوقع أن تمتد الحرب خلالها، وجودَها في المنطقة بصورةٍ كاملة. الرهان إذاً على حجم الوجود الأميركي في الشرق الأوسط. وبالتالي، هو رهان على مصيرين: مصير الهيمنة الأميركية على دول متعددة في المنطقة وثرواتها، ومصير الكيان الصهيوني في الوقت نفسه.

هكذا تبدو واشنطن راغبةً في وقف النار الموقت، وإنعاش صورة الكيان عبر استعادة أسراه خلال الهدنة الرمضانية الموقتة، التي تشير المواقف الأميركية إلى الرغبة في تحقيقها، واستئناف الحرب بعدها لتحقيق هدف القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة، والوصول إلى المرحلة الأخيرة من هذا السيناريو، وهي فرض واقع سياسي جديد في غزة، يأتي مشروع الميناء ليعزز حضوره، من خلال إعطاء من تبقى من الغزاويين “جَزرة” الميناء والمساعدات وإعادة الإعمار وحكم سياسي جديد، في مقابل عرض يقضي بالتخلي عن الكفاح المسلح، وتعويم خيار التطبيع برعاية ومشاركة عربيتين متسعتين، يجري العمل الآن على صياغة توافقات معها، على نحو يظهر كحل شاملٍ للصراع.

وهو حل لا تبدو فيه الآن فرصةٌ أكيدة لإقامة دولةٍ فلسطينية، بل وعود وتعهدات يبقى انعكاسها الحقيقي في يد الاحتلال وحده، والذي يتمكن أمام العالم الآن من منع إرادة القوة العالمية الأولى من إرسال المساعدات إلى غزة بالبر، أو هكذا يبدو على الأقل.

هذا بالتحديد ما تفشله المقاومات في المنطقة كل يوم. وهذا ما يبرر التصعيد النوعي الذي تشهده جبهات المساندة هذه الأيام، من استهداف يمني بالغ الجرأة للسفن المتعاملة مع الكيان، وللسفن الحربية الأميركية والبريطانية في بحر العرب والبحر الأحمر. كما أن هذا ما يفسر استهداف المقاومة الإسلامية في العراق المطار ومصافي النفط في حيفا. وهو نفسه المعطى الذي يفسر التصعيد الذكي والمدروس للوسائل التي يدخلها حزب الله في لبنان، في إطار معركة طريق القدس.

لكن، من جهةٍ مغايرة، تشير تعقيدات متزامنة في ساحات أخرى إلى دقة الخيارات الأميركية في التعامل مع أزمات العالم، وخصوصاً احتمالات خوض حرب خارجية جديدة.

فأمام الولايات المتحدة الآن تهديدان رئيسان لحليفين يعبر مأزقهما عن اتجاهات نفوذها المستقبلي. يتمثل التهديد الأول بمسار الحرب في أوكرانيا، بينما يتمثل الثاني بفشل “إسرائيل” في حماية نفسها، وفرض إرادتها من خلال حرب الإبادة التي تخوضها.

الساحتان تُفضيان الآن إلى تكشُّف ضرورة مشاركة الولايات المتحدة بصورةٍ مباشرة، لو أرادت وقف مساري الخسارة في أوكرانيا وفلسطين. وفي الحالتين ستؤدي خسارة حليف إلى تسارع انحدار المشروع الأميركي في الإقليم الذي تحدث فيه تلك الخسارة. تتخوف إدارة بايدن من خسارة الحربين معاً. وهذا ما يهدد باحتمال رفع الرهان في إحدى الأزمتين، والسماح بتطوير صراعٍ أوسع، إما مع محور المقاومة في الشرق الأوسط، وإمّا مع روسيا في فضاء الأمن الأوروبي.

الخياران صعبان جداً، وغير مضمونين من ناحية النتائج. إذاً، يمتلك الطرفان المقابلان، إلى جانب قدراتهما العسكرية، إرادة القتال أعواماً طويلة، وخصوصاً أن هذين الخيارين يأتيان قبل تهديدٍ ثالثٍ أكبر منهما تواجهه أميركا، وهو مسار الصين الذي قد يحسم اتجاه الصراع الاستراتيجي العالمي فيما لو تأخرت أميركا في إشعال تايوان، أو خسرت إحدى الحربين، في الشرق الأوسط أو في أوكرانيا.

على بايدن الآن اختيار ما إذا كان سيقاتل عن حلفائه، أو أنه سيزج بحلفاء آخرين لمساندة حليف متداعٍ، كأن يدفع دولاً أوروبية من الناتو إلى قلب الحرب الأوكرانية، والمخاطرة بحرب قد تنزلق إلى مواجهة نووية، أو كأن يدفع حلفاءه في الشرق الأوسط إلى مساندة “إسرائيل” علناً في مواجهة الفلسطينيين، وهو ما سيشكل خطراً على أنظمتهم، ويفجر المنطقة إلى شظايا لكل منها تفاعلاتها، ونتائجها التي لا يمكن توقعها.

الخيار الآخر، الأكثر توافقاً مع المصلحة الأميركية الآن، هو أن تعمل واشنطن على وقفٍ شاملٍ لإطلاق النار في غزة ومع لبنان، كونه يعطي الوقت للجميع لحصاد خسائره وانتصاراته، والتحضير للمستقبل.

فإذا تمكنت الولايات المتحدة، أو أرادت أن تدعم قيام دولةٍ فلسطينية، فسيتطلب ذلك حكومةً صهيونية جديدة، الأمر الذي يُفضي إلى مقاربة مغايرة للعلاقة بالكيان، وإظهار أميركا للطبيعة الحقيقية لهذا الارتباط، على أن “إسرائيل” هي رأس حربةٍ غربي في المنطقة، وعليها التزام مصالح الغرب قبل مصلحة قادتها.

لكن دون ذلك أيضاً عقبات واقعية، أبرزها أن أي رئيس أميركي يجاهر بهذه الحقيقة سوف يخاطر بمستقبله السياسي الذي ستحرص لوبيات الصهيونية والجماعات الضاغطة وكارتيلات المصالح على تدميره، فكيف إذا كان هذا الخيار مطروحاً أمام رئيسٍ هرمٍ كبايدن، وفي سنة الانتخابات نفسها، ومع خصمٍ شرس كدونالد ترامب، وتحفز الأخير على مساندة “إسرائيل” إلى حدود أبعد.

يدرك نتنياهو وأعضاء فريقه هذه الحسابات، وهم بطبيعة الحال مستعدون للتضحية بكل شيء من أجل تحقيق أهدافهم، بما في ذلك مصير بايدن السياسي، أو مصير أميركا في حد ذاته، بسبب عدّهم أن كل ضررٍ يصيب واشنطن الآن يمكن تعويضه مع رئيسٍ آخر يكون أكثر قرباً من كيانهم. لذلك، فإن مماطلتهم في الحرب الآن تظهر إيماناً ما بأن التداعيات سوف تفرض حضور الجنود الأميركيين أنفسهم إلى المنطقة، ليقاتلوا عنهم. وبدلاً من عقيدتهم القائلة إن الرب سيذهب معهم إلى القتال، يريدون أن يذهب معهم الأميركي إلى الحرب.

في خضم كل ذلك، يأتي طرح فكرة الميناء بأفكارٍ واحتمالات متعددة، بتزامن مريب مع القصف بالمساعدات الدعائية. فإسقاط المساعدات القاتلة من الجو بهذه الصورة، أو بأي صورةٍ كانت، لا يفيد عملياً في تحقيق هدف إغاثة الفلسطينيين، نظراً إلى أن كمية هذه المساعدات لا تمكن مقارنتها بالحاجة الحقيقية في أي شكل.

وهي إذا ما قيست زمنياً، لا تغطي حاجة دقائق من أصل أربعٍ وعشرين ساعة. فما يسقط في اليوم لم يتجاوز – بحسب المعطيات المتوافرة – في أي يومٍ حمولةً شاحنتين من المساعدات التي يمكن أن تدخل من البر. إذاً، هو عمل مراوغ، له هدفٌ سياسي دعائي. ماذا عن الميناء؟

أما فكرة الميناء، فإلى جانب ارتباطها البعيد بما يُطرح بشأن احتياطات الغاز الطبيعي في بحر غزة، تبدو فكرة استخدامه من أجل إيصال المساعدات شديدة الانفصال عن الواقع قياساً إلى إلحاح الحاجة في القطاع.

إذ، كيف يمكن طرح الفكرة كحل بديل من الوضع الطبيعي لدخول المساعدات من البر، بينما يحتاج بناء هذا الميناء إلى أسابيع على الأقل بحسب التصريحات الأميركية. يعني ذلك توفير الأميركيين مزيداً من الوقت للكيان لتنفيذ الإبادة، وتمديداً لفرصة نتنياهو في تحقيق مشروعه الإجرامي الذي يريده من هذه الحرب.

بالنتيجة، فإن نتنياهو يواصل ابتزاز الإدارة الأميركية راغباً في دفعها إلى الخيارات الصعبة، وهي بدورها تبدو في أنها تتجنب الخوض في صراعٍ واسعٍ في الشرق الأوسط.

الطرفان تجمعها رغبة شديدة في أن يؤدي الميدان إلى انهيار المقاومة، وبالتالي فرض أمر واقع يؤدي إلى تجنيبهما تلك الخيارات الصعبة، بينما في الميدان، تشتد مساندة قوى محور المقاومة للمقاومة الفلسطينية المستمرة بالقتال ببسالة، وتطرح القوى المساندة معادلةً جديدة مع حلول شهر رمضان: إما وقف إطلاق نار شاملٍ يؤدي إلى تحقيق مطالب الفلسطينيين أولاً، وإمّا أننا مستعدون لما يؤلم، وأكثر من ذلك.

* المصدر: موقع الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب